تشكيل الحكومة وتسلّم وزير جديد لحقيبة البيئة، مناسبة للدعوة الى اعادة تقييم الأثر البيئي لمشاريع السدود، وإجراء تقييم استراتيجي لقطاع المياه عموماً، قبل أي استدانة أخرى لإنشاء سدود أو محطات معالجة جديدة. كما أنها مناسبة لإعادة تقييم خطة وزارة الطاقة التي وضعت عام 2010 وأقرها مجلس الوزراء عام 2012، من دون مراجعة عميقة وقبل إقرار استراتيجية شاملة وقانون المياه. وهذا تفرضه التجارب غير المشجعة حتى الآن، ومنها الجريمة التي تسبّب بها سدّا جنة وبقعاتة بتدمير اثنين من أهم الوديان في لبنان لجهة تنوعهما البيولوجي وأهميتهما التاريخية. وهي الجريمة التي تبدو السلطة ماضية الى تكرارها في وادي بسري مع بدء التحضيرات الميدانية للمباشرة في الأشغال.ترمي الخطة الوطنية التي وضعتها وزارة الطاقة والمياه لادارة قطاع المياه (ويتم الاستناد اليها لتنفيذ مشاريع السدود)، الى تحقيق سبعة أهداف رئيسية، هي: التوصل إلى الحد الأقصى من استغلال مصادر المياه السطحية، تحسين إدارة مصادر المياه الجوفية وحمايتها، تغطية العجز من خلال استعمال المياه الجوفية و/أو تخزين المياه السطحية، تأمين خدمة مياه الشفة بطريقة متواصلة وبنوعية عالية، تأمين كميات مياه كافية وبنوعية مقبولة وصحية للري، زيادة نسبة تغطية شبكات تجميع مياه الصرف الصحي وقدرة المعالجة، وإعتماد تقنيات مثلى لمعالجة الصرف الصحي.

عجز «الميزان المائي»
المعطى الأساسي الذي تستند اليه الخطة (المسماة استراتيجية) هو افتراض وجود «عجز مائي» يبرّر تخزين المياه فوق سطح الأرض وبكلفة عالية جداً. إلا أن السؤال الأساس، هنا، هو: على أية معطيات يستند الحديث عن العجز، بعدما توقفت الوزارة منذ زمن بعيد عن رصد المتساقطات (أمطار وثلوج) وقياس الينابيع ودراسات الأحواض الجوفية؟ فيما معظم البيانات التي تم الاستناد اليها قديمة جداً. ومع العلم، أيضا - وهو الاهم - أن البيانات المتعلقة بنسب تساقط الثلوج التي تعتبر المغذّي الاول والاكبر للخزانات الجوفية، معدومة!
وفي هذا السياق، تنبغي الاشارة إلى ما أثبتته دراسات الهيئة العلمية الالمانية، منذ سنوات، بأن حجم التدفق من نبع جعيتا الذي يغذي بيروت وقسماً من جبل لبنان في فصل الشحائح هو ضعف ما تصرح عنه دراسات وزارة الطاقة.
كما أن الوزارة لم تجب، منذ عام 2010 أثناء النقاشات التي رافقت اعداد الخطط التي تنفذ حالياً، عن حجم السحب من الخزانات الجوفية، وعن عدد الآبار الجوفية غير المرخصة، وعن كمية الهدر في الشبكات، وحجم المياه المعبأة التي تباع في لبنان وخارجه من الشركات المرخصة وغير المرخصة. ناهيك عن الجواب على سؤال مركزي يطرح دائماً: كيف تتوافر المياه للصهاريج وتغيب عن الشبكات؟
وعليه، إذا كان المعطى الأساسي في الاستراتيجية، أي ما تمنحنا إياه الطبيعة من مياه، غير مدروس كفاية، فكيف نؤكد وجود «عجز» ونضع على أساس ذلك استراتيجية لمعالجته؟ وهل أُخذت كل هذه المعطيات في الاعتبار عند الحديث عن «الميزان المائي» وعن «عجزه»؟ مع العلم أن اتخاذ اجراءات غير مكلفة، مثل تغيير أنماط الري في الزراعة ودعم الزراعات البعلية وتنميتها، واستخدام الأساليب الحديثة كالتنقيط والبحيرات الصغيرة، وغيرها، توفر 50% من الاستهلاك الأكبر في الزراعة. ناهيك عن معالجة مياه الصرف وامكانية اعادة استخدامها في الزراعات غير الغذائية، واستخدام العدّادات في المدن بدل العيارات بعد ضبط الهدر في الشبكات (المقدر بـ30%)، وضبط الاستهلاك في القطاع السياحي المسكوت عنه في تقارير الوزارة، وإعادة الاستخدام في القطاع الصناعي… وهذه كلها إجراءات توفر في الاستهلاك وتخفض الطلب وتقلّل من الحاجة الى السدود السطحية المدمرة.

«تغير المناخ» حجة ضد السدود
اما حجج تغيرّ المناخ وتوقع ارتفاع حرارة الأرض وزيادة الجفاف والتصحّر والطلب على المياه… فكلها ليست في مصلحة إنشاء سدود سطحية لتجميع المياه وتعريضها للتبخر والتلوث، مما يحتم إنشاء محطات معالجة اضافية بعد كل سد، في حين أن المطلوب تقليد الطبيعة التي تخزّن المياه تحت الارض عبر تعزيز التخزين الجوفي، وليس تحديها بقطع مجاري الانهر. أما موضوع التكيف مع تغير المناخ فهو غير مطروح في استراتيجية وزارة الطاقة، كما لم تُدرس التغيرات التي ستطرأ على النظم الايكولوجية في مواقع السدود الـ 42 المقترحة، وتلك قيد الإنشاء، ولا تأثير السدود على البيئة البحرية (التي يمكن أن تزيد ملوحتها وتتسبب في نقص غذائي للكائنات والثروات البحرية)، ولا، أيضاً، تأثيرها على المياه الجوفية التي تغذي الينابيع. وقد بينت دراسة اولية وجود تأثير لسد القيسماني على نبع الشاغور في حمانا، ولسد جنة على نبع جعيتا!

ما غاب عن الاستراتيجية
بالتجربة والبرهان، ثبت أن استراتيجية السدود ترتّب أعباء إضافية لا يُصرّح عنها دفعة واحدة. هذا ما حصل في سدود عدة بعدما تبين أن التشققات في أرضها لا تسمح بتخزين المياه، مما اضطر المقاولين الى «تبطينها» بكميات ضخمة من الاسمنت، كما حصل في سد بلعة الذي بني فوق بواليع، أو الى «تغليفها» كلياً كما في القيسماني. وهذا ما سيحصل في سد بقعاتة (المتن) الذي سيكلّف 65 مليون دولار لتخزين سبعة ملايين متر مكعب من المياه، من دون احتساب كلفة الاستملاكات، وكلفة تغليف السد بالاسمنت المقدرة بنحو 14 مليون دولار اضافية لم تكن مدرجة في الكلفة الأساسية، وستة ملايين دولار كلفة إنشاء محطة التكرير بالقرب منه! هذه الأكلاف الضخمة ما كانت لتُدفع لو أُخذ برأي الهيدروجيولوجيين الذين حذروا مراراً من أن الأراضي اللبنانية بمعظمها، وضمنها مواقع السدود المقترحة، تتميز بنعمة التشققات التي تسمح بتخزين المياه طبيعياً تحت الارض، وبالتالي فإنها لا تصلح للتخزين السطحي المعرّض للتبخر والتلوث. ناهيك عن مخالفة شروط الامان، لا سيما امكانية تعرض هذه المواقع لهزات أرضية يمكن أن تسبب بتشققات وكوارث، وجعل هذه المنشآت أهدافاً استراتيجية للعدو ما يشكّل تهديدا لأمننا المائي.
اجراءات غير مكلفة يمكن أن توفر 50% من الاستهلاك الأكبر للمياه في الزراعة وتقلّل الحاجة الى السدود المدمرة


الاستراتيجية لم تدرس مسألة استرداد الكلفة (العالية) وربط تسعير توصيل المياه مع تسعير معالجة مياه الصرف، مع العلم أن كل زيادة في استهلاك المياه العذبة تزيد من كلفة معالجة مياه الصرف، لا بل قد تصبح كلفة معالجة مياه الصرف أكبر من كلفة تأمين المياه العذبة! كما أنها لم تدرس الآثار البيئية لما تحتاجه السدود من حفريات ضخمة ومقالع خاصة لاستخدامها في البناء، الأمر الذي يتسبب بتدمير الوديان وتغيير معالمها وتشويهها، وتغيير النظم الايكولوجية في المناطق المحيطة بها، بتحويل أماكن جافة صيفاً الى مناطق رطبة ستكون معرضة حتما للتلوث، اسوة بما حصل لبحيرة القرعون. وحينها تصبح كلفة المعالجة ورفع التلوث أكبر من كلفة الإنشاء! كذلك لم تلحظ أين تذهب الردميات بعد الحفر وأثر ذلك على البيئة، كما حصل في سد بقعاتة حيث كان التدمير مزدوجاً: لموقع السد، وللأودية والأنهار التي رُميت فيها الردميات!
الأولوية الأولى المطلوبة هي مقارنة هذه الاستراتيجية، اثناء انجازها وبعده، بالخطة الشاملة لترتيب الأراضي ومتطلباتها وضوابطها التي أقرها مجلس الوزراء عام 2009، واحترام مبادئ الاستدامة والعدالة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. ومنح الأولوية لمعالجة مياه الصرف واعادة استخدامها، ووقف الهدر في الشبكات وضبط سرقة المياه وبيعها… على حساب إنشاء السدود السطحية.



جريمة سد بسري
تبلغ كلفة انشاء سد بسري نحو مليار و200 مليون دولار قروضاً من البنك الدولي والبنك الإسلامي لتخزين 125 مليون متر مكعب من المياه لخدمة بيروت الكبرى. جريمة كبرى ومتعددة الأوجه سترتكب، اذا سار المشروع وفق ما هو مخطط له. الوجه الأول يتعلق بالموقع الذي يحتوي على تنوع بيولوجي فريد ما كان يفترض تدميره مع تراث أثري غني. كما أن موقع السد، بحسب الجيولوجيين، لا يستوعب المياه. اما الوجه الثاني للجريمة فهو في مصادر مياه هذا السد لناحيتي الكمية والنوعية. لناحية الكمية، سيتم تخزين 60 مليون متر مكعب من نهر الأولي لن تصمد بسبب تفسخ الارض. كما أن المخطط جر 60 مليون متر مكعب من بحيرة القرعون، فيما السعة القصوى لهذه البحيرة لا تتجاوز 125 مليون متر مكعب، علماً أن مشروع قناة الـ 800 ينص على نقل 110 ملايين متر مكعب من البحيرة نفسها الى الجنوب! إضافة الى أن مياه القرعون لم تعد أصلا صالحة للزراعة، ناهيك عن الشرب، بسبب تلوثها بالسينوبكتيريا السامة التي لا علاج لها، والتي يمكن أن تنتقل الى الاولي عبر هذا المشروع… فيما كان ينبغي أن تعطى الأولوية لمعالجة مياه الصرف التي تصب حاليا من قرى الإقليم في وادي ونهر بسري، على انشاء سدود لتجميع مياه الشرب في المكان نفسه!