يقول المثل الصيني إن الانسان كمياه النهر، تخرج صافية من النبع ثم تتعكّر خلال جريانها. لعلّ ميزة جوزف سماحة الذي مرّ اليوم اثنا عشر عاماً على رحيله، أنّه بقي إلى النهاية على صفائه. أعداد غفيرة في الوطن العربي، في زمن الأحلام الكبرى و«اقتحام أبواب السماء»، آمنت بالثورة والتغيير، وناضلت وتحمّلت المخاطر والعسف، وقدمت التضحيات… قبل أن تستسلم أمام مشقة الطريق ووعورته. أهوال الحروب والنزاعات، وبعضها داخلي اهلي، والهزائم المتتالية وما يليها من شعور بالتقهقر المستمر، إضافة إلى مصاعب الحياة وضغوطها اليومية بالنسبة إلى الأفراد، دفعتها إلى الخروج من المسيرة الطويلة.الأنكى من ذلك، أن موجات «النقد الذاتي» التي تبعت الهزائم والنكسات، أسهمت في زعزعة اقتناعات الكثيرين، ودفعتهم إلى التشكيك في واقعية الشعارات والأهداف التي رفعتها قوى التحرر العربية، فضلاً عن صوابيتها. اعتقد بعضهم، بوحي من «النقد الذاتي» العتيد، أننا مسؤولون عمّا أصابنا من ويلات، لأننا لم نفهم العالم المعاصر وموازين القوى التي تحكمه، بفعل «لاعقلانية كامنة في ثقافتنا ومعتقداتنا» تحملنا على رفضه وتحديه، والبحث عن القائد الملهم والمنقذ، لمنازلته والانتصار عليه. هيمن هذا الخطاب على الساحة السياسية والثقافية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحرب تدمير العراق الأولى بذريعة تحرير الكويت، وانطلاق عملية التسوية المزعومة.

(هيثم الموسوي)

من يستعد تفاصيل تلك المرحلة المفصلية في تاريخ المنطقة والعالم، التي أريد لها أن تكون اللحظة التأسيسية لهيمنة أميركية «حميدة ومديدة» على الكوكب، يجد أن جوزف سماحة كان في طليعة المتصدّين للخطر المحدق بمصائر شعوبنا ومستقبلها. لم يكن سماحة بخيلاً بالنقد الذاتي لمواقف حركة التحرر العربية وسياستها، بأنظمتها وأحزابها ومفكريها. مراجعة كتاباته على مدى عقود، تظهر الأهمية التي أولاها للحوار وحتى للصراع «الداخلي» مع اطراف المعسكر الواحد، لحملهم على تعديل سياسات أو التخلي عنها، واعتماد أخرى بديلة.
جوزف سماحة فعل ذلك من موقع الالتزام بأهداف حركة التحرر: الاستقلال والوحدة وتحرير فلسطين والعدالة الاجتماعية والحرص على بلورة السياسات الملائمة لتحقيقها. إلا أن تعرّض بلدان المنطقة للاستباحة، مع ظهور تباشير ما سمي النظام الدولي الجديد الذي حرص مهندسوه على البدء بتشييده عبر الانقضاض على «بطنه الرخو»، حسب تعبيرهم، هذا التعرّض غيّر الأولويات بالنسبة إلى سماحة. التصدي للاجتياح الاستعماري الجديد بأشكاله العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية كافة، بات يحتل موقع الأولوية التي تبنى السياسات والتحالفات على قاعدتها. لقد أدرك في تلك الأيام العصيبة أن الأهم هو الحفاظ على الثوابت الوطنية والقومية في أذهان شعوب الأمة. هذه الثوابت، سعت الحرب الأيديولوجية والاعلامية الشرسة التي شنها أعداء العرب، ووكلاؤهم المحليون من أبناء جلدتنا، إلى زعزعتها وتبديدها. وقد لخّص سماحة رؤيته لطبيعة المرحلة وتحدياتها الأبرز وسبل المواجهة في كتابه المرجعي «سلام عابر ـــ نحو حلّ عربي للمسألة اليهودية» («دار النهار للنشر»، 1993).

منع محو العرب عن الخارطة
أكثر ما استفزّ جوزف سماحة، ومن عرفه جيداً يتذكر ذلك بالضرورة، هو قدر الكراهية الغربية لحق العرب في تقرير المصير والوحدة، التي ظهرتها الحرب على العراق في عام 1991. كراهية سائلة ولزجة نضحت من تصريحات المسؤولين الأميركيين والفرنسيين خلال الحرب، مثل التوعد بـ«اعادة العراق الى العصر الحجري»، أو الاحتفاء بـ«نهاية العالم العربي ككيان سياسي»، أو التأكيد أن «الأمة العربية ليست سوى خرافة»، أو المقارنات بين ركوع جنود عراقيين أمام القوات الأميركية في الصحراء، وهروب الجنود المصريين حفاة من أمام القوات الاسرائيلية في حرب حزيران/ يونيو 1967، أو الاصرار على أن العالم العربي «مسرح العمليات المركزية»، و«قوس المجازر»…
كانت هذه الحرب مناسبة جديدة لانتقام الغرب من العرب، والحطّ من شأنهم واذلالهم لأنهم تجرأوا على التطلع إلى الاستقلال والوحدة. وهي أوضحت مرة أخرى الطبيعة الحقيقية للصراع الدائر منذ بدايات القرن العشرين، أي منذ أن غزت الجيوش الأوروبية المنطقة وقسمتها وأقامت دولة اسرائيل في ظل حرابها. وهذا الصراع ممتد الى الآن. منع الاستقلال والوحدة والتنمية المستقلة عبر التحكم في الثروات الوطنية، وهي الأهداف المركزية لاستراتيجية الأعداء، وتلعب إسرائيل دوراً وظيفياً في اطارها. وقد شكل مسار التسوية، الذي انطلق بعد حرب 1991، استكمالاً لنتائجها في محاولة لفرض الاستسلام على البلدان العربية، وتصفية حركات المقاومة الشعبية. تجربة تاريخية على مدى قرن، أكدت رفض الغرب الاعتراف بالعرب كندّ سياسي، وإصراره على محوهم من الخريطة، ومن لغته السياسية التي تفضل الحديث عن «الشرق الأوسط»، والتعامل معهم كدويلات مشتتة وضعيفة وتابعة مما يتيح تأبيد سيطرته.

المقاومة حجر الزاوية في مشروع النهضة العربية
مع دخول الهجمة الاستعمارية إلى المنطقة طوراً جديداً تحت شعار إعادة صياغة الشرق الأوسط، أي تفكيك دولها القطرية على أسس طائفية وإثنية، والتي حولت العراق الى مختبر لنموذج مرشح للتعميم، اعتبر جوزف سماحة أن محور المقاومة هو القوة الوحيدة القادرة على مواجهتها وافشالها. لا يمكن فصل تأسيس جريدة «الأخبار» عن هذا السياق الذي استعرت فيه «الحرب الناعمة» إلى جانب الحرب الأخرى، الخشنة، التي اندلعت ضد لبنان في تموز/ يوليو 2006. لقد نجح محور المقاومة في اسقاط مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي افشال المؤامرة على سوريا. وهو ماض في بناء قدرات عسكرية نوعية في مواجهة اسرائيل، تشل قدرتها على العدوان… وكل ما سبق بين الشروط المؤاتية لاعادة بناء مشروع نهضوي عربي، يحقق تطلعات وطموحات الملايين المنكوبة والمفقرة جراء سياسات الحرب والنهب والاستغلال.
لم يكن جوزف سماحة ساذجاً حيال القضايا المركزية للعرب. كان مرناً إلى أقصى الحدود في النقاش والتفاعل، مع أصحاب الرأي الآخر، عرباً أو غربيين. لكنه، منذ أن أطل الاستعمار الغربي برأسه عائداً، في أوائل التسعينيات، حسم الجدل في داخله أولاً، ثم في ما قاله وكتبه، ودعا صراحة إلى اعتبار مواجهة هذا الاستعمار، شرطاً حاسماً لكل تحول نحو الاستقلال والتطور. ومع الوقت، صار أكثر اقتناعاً بأن المقاومة هي الخيار الأوحد، ولذلك، لم يكن لديه تردد إزاء فكرة المقاومة المباشرة التي باتت الممر الالزامي لإفشال المشروع الاستعماري. وفي أكثر لحظات العرب قساوة (حروب أميركا والغرب وإسرائيل على شعوبنا، من فلسطين ولبنان، إلى العراق وأفغانستان ودول في أفريقيا) وصل الأمر بجوزف سماحة إلى اعتبار الهدنة خياراً مشروعاً مع طغاة واستبداديين، إذا كان في ذلك ما يفيد المشروع الأساسي في مواجهة «الاجتياح الأبيض» لبلادنا. وهو الأمر الذي أعاد التوازن في فكر جوزف سماحة، بعد مرحلة اختلال أصابه كما أصاب كثيرين، بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتعزز الديكتاتوريات في العالم.
مرة جديدة، لا يزال بعضهم يستعيد جوزف سماحة بطريقة تستهدف اخراجه من السياق الذي انتمى اليه، والذي أعلن الانتماء إليه، فكراً وكتابة ونضالاً. وهؤلاء خالفوا سماحة الرأي في حياته، ولا يملكون اليوم ما يكفي من الجرأة والنزاهة، ليعترفوا بأن الرجل كان على صواب...
لم يستوحش جوزف سماحة في أصعب الظروف طريق الحق لقلة سالكيه، ونحن على الدرب نفسه سائرون.

* «أسرة التحرير»