مشروع الموازنة معدّ منذ 13 أيلول الماضي، إلا أنه نائم في أدراج الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ولم تُجرَ عليه أي تعديلات بعد «في انتظار توافق بين أصحاب القرار»، على حدّ تعبير أحد النواب. وهذا الأمر دفع رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى الكشف عن «قلقه الكبير» من هذه التطورات وتداعياتها. ففي لقاء الأربعاء النيابي أمس، قال بري إنه تداول مع رئيس الجمهورية ميشال عون في موضوع الموازنة، مؤكداً أولوية إقرارها «أولًا وثانياً وعاشراً». ولفت إلى أنّ «على مجلس الوزراء الإسراع في إقرار الموازنة التي أنجزها وزير المال بأسرع وقت وإحالتها على مجلس النواب الذي سينكبّ على درسها في لجنة المال لمناقشتها وإقرارها في الهيئة العامة»، مضيفاً أنه «إذا لم تخفض الموازنة العجز بنسبة تزيد على 1%، فإن ذلك يعني أن البلد ستكون بوضع غير جيد».كذلك نقل النواب عن بري أنه أجرى لقاءات واتصالات شملت «وزير الاقتصاد ولجنة الاقتصاد النيابية وحاكم مصرف لبنان وخبراء اقتصاديين من أجل مقاربة موضوعية للوضع الاقتصادي الصعب والدقيق وإنقاذ البلاد من خلال إجراءات تحول دون الوصول الى ما لا تُحمَد عقباه، وألّا تكون هذه الإجراءات على حساب الاستقرار المعيشي لذوي الدخل المحدود».
كلام برّي، بحسب مصادر مطلعة، يأتي على خلفية المماطلة في التوافق على الموازنة. إذ كان يفترض أن يُعقد اجتماع بين الأطراف المعنية، كرئاسة الحكومة وممثلي القوى السياسية في الحكومة، للاتفاق على توجهات الموازنة وآليات الخفض والبنود التي سيصيبها، إلا أن هذا الاجتماع لم يحصل بعد.
كذلك يأتي استنفار برّي قبل انقضاء المهلة التي أعطيت للحكومة في الجلسة التشريعية الأخيرة حين أقرّ قانون الإنفاق على القاعدة الاثنتي عشرية لغاية 31 أيار المقبل. يومها، كانت الحجّة لإقرار هذا القانون، أن مناقشة الموازنة في مجلس الوزراء تتطلب شهراً ونصف شهر، ومدّة مماثلة لإقرارها في مجلس النواب. رغم ذلك، مضت أكثر من ثلاثة أسابيع من دون أي مؤشّر على جديّة التعامل مع مسألة إقرار الموازنة.
وكان المسؤولون اللبنانيون قد سمعوا انتقادات واسعة من موفدين أجانب، أبرزهم موفد الرئاسة الفرنسية لتطبيق مقررات مؤتمر «سيدر» بيار دوكان. فإقرار الموازنة يعدّ بمثابة إشارة للجهات «المانحة» إلى استعداد لبنان لالتزام تعهداته، في مقابل إيفاء هذه الجهات بالتزامات المالية تجاه لبنان.
دوائر وزارة المال أعدّت مشروعاً لخفض النفقات بقيمة مليار دولار يشمل 33 بنداً


واللافت أن هناك برودة واضحة من القوى السياسية في التعامل مع مسألة إقرار الموازنة، رغم مرور أكثر من شهرين على تأليف الحكومة. وباستثناء ما قدّمه النائب حسن فضل الله من اقتراحات لخفض العجز بقيمة تصل إلى 400 مليار ليرة، لم تظهر أي اقتراحات مماثلة، بل بدا أن هناك ممانعة لإجراء الخفوضات وسط صراع على الأولويات بين من يريد تمرير خطّة الكهرباء أولاً، ومن يسعى لإقرار الموازنة أولاً.
هذا الصراع ليس مرتبطاً بالآليات الدستورية التي توجب إقرار الموازنة في مجلس الوزراء قبل نهاية تشرين الأول من العام السابق، وليس مرتبطاً بالانتظام الدستوري للمالية العامة التي انحرفت طوال السنوات الماضية عن مسارها الدستوري في التزام المهل الدستورية وطرق الإنفاق.
وبحسب المطلعين، إن دوائر وزارة المال أعدّت مشروعاً لخفض النفقات بقيمة مليار دولار، من أبرز بنوده خفض للنفقات يشمل 33 بنداً بنسبة 70%. يتضمن هذا الخفض تقليص نفقات المساهمات للهيئات التي لا تتوخى الربح إلى 63 مليون دولار، وتقليص احتياط الموازنة إلى 95 مليون دولار، ونفقات المحروقات إلى 46 مليون دولار، ونفقات العطاءات إلى 46 مليون دولار، ونفقات إنشاءات مجلس الجنوب إلى 14 مليون دولار، ونفقات الدروس والاستشارات إلى 18 مليون دولار، ونفقات تجهيزات النقل إلى 14 مليون دولار، ونفقات الإيجارات والصيانة للمكاتب إلى 8 ملايين دولار، ونفقات الهيئة العليا للإغاثة إلى 10 ملايين دولار…
يبدو أن هناك الكثير من الأبواب لتقليص النفقات، لكن القوى السياسية بمجموعها راغبة في تعزيز الزبائنية السياسية، فتوسّعت في طلبات النفقات عبر الإدارات العامة، سواء عبر المشاريع، أو عبر التوظيف الإضافي، وهي اليوم تضع الرواتب والأجور في القطاع العام هدفاً لها لخفض النفقات، تمهيداً للحصول على قروض «سيدر» من دون أن تبحث في حقيقة أن خدمة الدين العام باتت تبلغ 6.5 مليارات دولار، وأن عجز الكهرباء مقدّر في 2019 بنحو 1.8 مليار دولار.



الـ1% لا تكفي
عندما التزم لبنان خفض العجز بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى خمس سنوات، في مؤتمر باريس 4 المعروف باسم «سيدر»، كان عجز الخزينة نسبةً إلى الناتج يبلغ 7%، إلا أن هذه النسبة ارتفعت في 2018 إلى 10.5% ويتوقع أن تبلغ 11.5% في 2019، ما يعني أن تطبيق تعهدات لبنان أمام دول سيدر التي تكرّرت في البيان الوزاري، يتطلب أن يلتزم لبنان خفضاً للعجز تبلغ نسبته الإجمالية 8.5% على مدى السنوات الخمس المقبلة، أي بمعدل 1.7% سنوياً بدلاً من 1% سنوياً. هذا التطوّر يتطلب خفضاً للعجز بقيمة مليار دولار في 2019، بقيمة 1.07 مليار دولار في 2020، وبقيمة 1.1 مليار دولار في 2021، وبقيمة 1.2 مليار دولار في 2022، وبقيمة 1.270 مليار دولار في 2023. لكن المشكلة أن القوى السياسية الممثلة في الحكومة أطلقت العنان لمطالباتها في الإنفاق، إلى درجة أن تقديرات العجز تجاوزت الخطوط الحمراء كثيراً، إذ يتوقع أن يبلغ 12 ألف مليار ليرة في 2019، أي ما يوازي 13.4% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بنحو 59.3 مليار دولار، بدلاً من أن يكون 9.8%. هكذا يكون المطلوب من الحكومة أن تخفض العجز بمعدل 3.62% من الناتج في 2019، أي ما قيمته 2.14 مليار دولار.