في عام 2006، استفاد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من فوزه في العام السابق بجميع نواب الطائفة الدرزية لإمرار قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز، مفصلاً على قياسه. وبفضل هذا القانون ــــ معطوفاً على نفوذه القوي في السلطة آنذاك وعلاقته المتينة بآل الحريري، استحوذ على المجلس المذهبي لإحكام سيطرته على مقدرات الطائفة. انطلق بعدها لتوسيع نفوذه عبر تعيين مجموعة من القضاة في المحاكم المذهبية يدينون بالولاء له، لينهي أي صراع يتعلق بأمور الطائفة قبل أن يبدأ حتى؛ فكان أن وضع يده على الأوقاف الدرزية تباعاً... تلك التي تدرّ عائدات مالية بالطبع. وفي القاموس الجنبلاطي، الشعار الأول «فرّق تسد»، إذ لا بدّ من تأجيج الخلافات بين أبناء البلدة الواحدة، ثم بين قضاة المحاكم المذهبية، لفرض السلطة على الوقف. وقف بلدة عبيه (عاليه) مثالاً، وقف مدينة بيروت مثال آخر، فيما يجري اليوم وضع اليد على وقف بلدة المتين (المتن الشمالي).بدأت القصة منذ نحو 10 سنوات، عند توجه بعض أعضاء المجلس المذهبي الى المتين تحت عنوان «الكشف على الوقف»، الذي هو عبارة عن 17 عقاراً، بينها عقار بمساحة تقارب الـ 400 ألف متر في منطقة الزعرور. سريعاً، تيقّن أهالي المتين من نيّات زائريهم، وخصوصاً أن عائدات هذه العقارات المستثمرة تقدّر بنحو 300 ألف دولار سنوياً، فأكدوا لهم أن الوقف خاص بالبلدة وليس وقفاً عاماً. ويقول أحد وجهاء البلدة من المشايخ الدروز إن الأهالي ينظّمون عريضة كل ثلاث سنوات تحمل توقيع غالبية المتينيين الدروز من أجل تشكيل لجنة لإدارة هذا الوقف، يتم إيداعها لدى القاضي المذهبي في بيروت. ثم تذهب نسخة منها الى المجلس المذهبي لأخذ العلم والحفظ لا غير. إلا أن شيخ العقل نعيم حسن أبى الالتزام بالدور المحدد له وفق المضبطة العثمانية التاريخية التي تعطي دروز المتين الحق بإدارة وقفهم، وأصدر قراراً، بصفته رئيساً للمجلس المذهبي، في عام 2008 بتعيين لجنة إدارة وقف المتين، ملتزماً بالأسماء التي اختارها أهالي البلدة. وأرفق قراره بآخر، لتشكيل لجنة مالية وفتح حساب مصرفي في بنك بيروت والبلاد العربية لإيداع عائدات وقف المتين. لم يدرِ يومها دروز البلدة أن القرار هذا سيفتح الباب لاحقاً أمام سيطرة المجلس المذهبي على وقفهم أو بالأحرى على أموالهم.
استمر الأمر على ما هو عليه الى حين انتهاء عقود استثمارات بعض العقارات بداية العام الماضي، ومن بينها العقار الكبير في الزعرور الذي يسمى بـ«الحبش». أبدى أهالي المتين رغبة بإجراء مزاد علني للراغبين في استئجار هذه العقارات، ولا سيما أن مستثمر «الحبش» القديم كان قد حصل على العقد بسعر بخس. لكنهم فوجئوا بإعادة تأجير المستثمر نفسه بقيمة منخفضة من خلال عقد مستحدث بقيمة منخفضة أيضاً ويحمل توقيع 4 وكلاء من أصل 6 (القانون يحتّم موافقة الوكلاء بالاتحاد) ومن دون علم أمين الصندوق. جرى ذلك بواسطة أحد أعضاء اللجنة «المزروعين من قبل شيخ العقل»، يقول رئيس جمعية المرشدية الوطنية، الشيخ خطار القنطار لـ«الأخبار». وبرأي القنطار، وهو أحد المشايخ البارزين في المتين، أدى قرار إعادة تأجير «الحبش» إلى «خلق حالة إرباك كبيرة في المتين واستنفار درزي، تبعته شكوى ضد أحد أعضاء اللجنة بالسمسرة، قبل أن يتدخل شيخ العقل نعيم حسن لحمايته خلافاً للأصول». استنفد وجهاء البلدة كل المساعي للوصول الى حلول منصفة، فتوجّه الشيخ القنطار برفقة وفد الى القاضي العقاري يوسف الحكيم لتثبيت ملكية البلدة للوقف. أصدر القاضي قرارين أثبتا ملكية مسجد قرية المتين للوقف المؤلف من 17 عقاراً، أي أن عائدات الاستثمارات تعود الى عموم دروز المتين ويشرف عليها قاضي المذهب الدرزي في بيروت كما ورد في الإفادات العقارية.
اعترضت مشيخة العقل على هذين القرارين مشككة في صحتهما، وطلبت وضع الوقف مجدداً تحت إشرافها. ولما رفض «سائسا» البلدة الشيخان سلامة وأسد القنطار الانصياع لرغبة شيخ العقل، أصدر قراراً بتجميد كل إجازات «السُّوّاس» ما قبل عام 2006، وأبلغه الى مجلس المتين من أجل عزل الشيخين من منصبهما سعياً وراء «الهيمنة والسيطرة على العقارات خلافاً للقانون»، بحسب الشيخ خطار الذي يضيف: «اتّضح لوجهاء البلدة أن عضو لجنة الوقف، كمال بلوط يتبرع سنوياً بعائدات وقف المتين للجنة اجتماعية في المجلس المذهبي من دون معرفتنا، وبما يتعارض مع المضبطة التي تؤكد أن ريع الوقف يعود لدروز المتين. وبالتالي، تيقّنّا أن غرض مشيخة العقل من السيطرة على وقفنا هو النهب والسرقة، فتقدمنا بدعوى أمام مجلس شورى الدولة لإبطال قرار شيخ العقل الجائر». بموازاة ذلك، ردّ القاضي العقاري طلب مشيخة العقل، محيلاً القضية على المحكمة المذهبية في بيروت، معتبراً أنها صاحبة الصلاحية لبتّ هذا الموضوع. تزامن الأمر مع انتهاء ولاية اللجنة التي تدير وقف المتين، فألّف المشايخ لجنة جديدة من دون العودة الى شيخ العقل، فما كان من الأخير إلا إصدار قرار فردي، من دون موافقة دروز المتين، بتعيين شخص لمتابعة أمور الوقف في البلدة. ويشير الشيخ القنطار الى أن المشيخة تمادت في «الاستيلاء على أموالنا عبر الضغط على بنك بيروت والبلاد العربية لسحب أموال الوقف المودعة لديه من دون موافقتنا وخلافاً للقانون الذي يحصر التصرف بهذه الأموال بدروز البلدة». فتقدم المتينيون بشكوى ثانية أمام مجلس شورى الدولة تم إدخال البنك ضمنها، ولا سيما أن رئيس مجلس إدارة البنك في بيروت هو رئيس لجنة في المجلس المذهبي ومدير أحد فروع المصرف في المتن الشمالي هو عضو في المجلس، ولم يمتثلا للقرار الصادر عن القاضي المذهبي في بيروت نصوح حيدر بحصر وكالة الوقف بالشيخين سلامة وأسد القنطار.
وسرعان ما استسلم القاضي المذهبي في بيروت لضغط المجلس، وعاد عن قراره بإصدار قرار مضاد بتاريخ 12/2/2019 يؤكد فيه أن وقف المتين عام وليس خاصاً، ويخضع بالتالي لسلطة شيخ العقل. لكن بعد اطمئنان حيدر الى «وقف التشكيلات القضائية التي حصلت بإيعاز من جنبلاط لنقله من بيروت الى حاصبيا عقاباً له على قراره الأول، أصدر قراراً ثالثاً بتاريخ 1/3/2019 يوقف فيه مؤقتاً قراره الثاني، وعيّن جلسة للحكم بعد خمسة أيام». وما بين القرار وموعد الجلسة، طلب رئيس محكمة الاستئناف المذهبية الشيخ فيصل ناصر الدين من حيدر وقف النظر بكل ما له علاقة بوقف المتين. على الأثر تقدم حيدر بدعوى ضد ناصر الدين في التفتيش الخاص بمحكمة الاستئناف، فتعرض له ناصر الدين بالضرب بعد رفضه إلغاء الجلسة والانصياع لأوامر مشيخة العقل.
القنطار: غرض مشيخة العقل من السيطرة على وقفنا النهب والسرقة


حتى الساعة، كان رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط يحرك المشيخة في الكواليس، إلا أنه بعد حادثة الضرب دعا القاضيين وزملاءهما الى مصالحة أفضت الى تأجيل جلسة الحكم. تبعها كتاب من شيخ العقل الى قاضي المحكمة المذهبية في المتن الأعلى غاندي مكارم يطلب فيه تفسير الوصية والمضبطة العثمانية الخاصتين بوقف المتين. فلجأ مكارم الى الوكيلين المعينين من شيخ العقل (غير منتخبَين من دروز المتين) والمطعون بصحة منصبهما في مجلس شورى الدولة، فأصدر قراراً باعتبار وقف المتين وقفاً خاصاً، ولكن، في الوقت عينه، وضعه تحت إشراف شيخ العقل، مانحاً إياه كل الصلاحيات للتصرف به. حصل ذلك قبل صدور الحكم عن محكمة بيروت، ومن دون العودة الى شيخ البلدة سلامة القنطار الموكل من قبل 100 درزي في المتين، ومن دون الاعتراف بالوكلاء المعينين بحكم قضائي من محكمة بيروت. استأنف مشايخ المتين القرار لدى محكمة الاستئناف، وتوجهوا الى وزير العدل ألبرت سرحان، طالبين منه كف يد المحاكم المذهبية الدرزية عن الملف لأنها تدين بالولاء لشيخ العقل الذي يقف وراء تعيين هؤلاء القضاة. وقبل 10 أيام، أصدر كل من رئيس الحزب الديموقراطي النائب طلال أرسلان ورئيس حزب التوحيد وئام وهاب موقفاً بخصوص النزاع الحاصل. فغرّد أرسلان على تويتر قائلاً: «ما يحصل بموضوع وقف المتين ومشايخها وعائلاتها معيب وعار وسرقة موصوفة. وكل من يسكت عن هذا التطاول يساهم في تدمير أسس قدسية الوصايا لدى الموحدين ومُطالب إلى يوم الدين مهما كان كبيراً أو صغيراً». أما وهاب، فدعا «الشيخ نعيم حسن إلى الاستقالة والعودة إلى تقاليد بيته الدينية، فالفضائح وآخرها فضيحة وقف المتين أصبحت لا تحتمل. استقالتك تفتح الباب لتسمية شيخ عقل يحظى بموافقة الجميع بناءً على تسمية لقاء خلدة كما تقضي المداورة».
وإلى حين صدور الحكم النهائي لهذه النزاعات بين أهالي المتين من جهة، ومشيخة العقل والمجلس المذهبي من جهة أخرى، يطالب الأهالي بتطبيق القانون الذي يعطي كل ذي حق حقه ويقر بولايتهم على مسجد بلدتهم. مشيخة العقل مستنفرة لفرض سيطرتها. وفي زمن أفول نفوذه، يبدو النائب السابق وليد جنبلاط أكثر حاجة من أي وقت مضى لإحكام قبضته على مقدرات الطائفة الدينية والمالية. ومن الطبيعي هنا أن يلجأ الى قضاة المذهب لفرض سطوته، كون هؤلاء مدينين له بمناصبهم وهم أصلاً أعضاء في الهيئة العامة للمجلس المذهبي وفي الوقت نفسه يَحكمون في النزاعات بين هذا المجلس والأهالي. وبحسب أحد المراجع الدرزية، الإشكالية الرئيسية تكمن في إعادة صياغة قانون عام 2006 الذي صيغ بطريقة فضفاضة خدمة لمصالح الحزب الاشتراكي، وجعل من القاضي المذهبي الخصم والحَكَم في آن.



مشيخة العقل: الخلاف بين الأهالي... لا معنا!
ترى مصادر في لجنة الأوقاف العامة في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز أن وقف المتين وقف خاص بموجب مضبطة عثمانية عمرها أكثر من 100 سنة، ويدار من خلال لجنة من أهالي البلدة. هذه اللجنة، بحسب المصدر، يعيّنها شيخ العقل وفق ما نصّ عليه قانون العام 2006 وتُشكّل بالتساوي بين العائلات؛ وهي مؤلفة اليوم من شخصين: الشيخ سطان القنطار والشيخ فؤاد مرداس. فشيخ العقل نعيم حسن «حاول التوصل الى حلّ توافقي بين المتنازعين في المتين أفضت الى تعيين الشيخين لمدة سنتين». لكن المجلس المذهبي يلتزم بالوصية التي تقول إن عائدات الوقف «يستفيد منها أهالي البلدة حصراً ولا تتصرف بها لا لجنة الوقف ولا المشيخة. في الواقع، اللجنة السابقة عملت كثيراً وجنت أموالاً كثيرة نفذت بفضلها عدة مشاريع في المتين». ويشدد المصدر على أن المجلس المذهبي الدرزي يحافظ على مصلحة الموحدين الدروز ككل ولا يتدخل في السياسة ولا يسأل حتى عن الانتماء السياسي للفرد، بل يهتم بمصلحة كل فرد بشكل متساوٍ». أما الدعاوى العالقة في ما خصّ وقف المتين، «فنترك الفصل فيها للقضاء بعد استنفاد شيخ العقل كل السبل لحلّ الموضوع، بما فيها عدم إعادة تسمية عضو في اللجنة السابقة اسمه كمال بلوط». كذلك تمّ «تعيين خبير مالي للتدقيق في عمل اللجنة السابقة، فلم يتبين له أي خلل ناتج من سوء نية». لكن القضاة المذهبيين هم أعضاء في المجلس المذهبي الذي يرأسه شيخ العقل، ألا يؤثر ذلك على قرارهم؟ يجيب المصدر: «نحن كلجنة أوقاف لا نتدخل بعمل القضاة، فهم أعضاء حُكميّين في المجلس كما الوزراء والنواب الحاليون والسابقون، إلا أنهم تابعون للدولة ويتقاضون رواتبهم منها بمعنى أنهم يتمتعون باستقلالية قضائية ومادية». ويختم المصدر أن «المجلس المذهبي للجميع وعلى مسافة واحدة من أبناء الطائفة، متمنياً على من لديه استفسار أن يلجأ الى اللجنة وإلا هناك نيابة عامة مالية وقضاء ونحن جاهزون لملاقاتهم في العدلية».
وكان المكتب الإعلامي لمشيخة العقل والمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز قد أصدر بياناً أوضح فيه أن «وقف المتين وقف خيري يستفيد منه عموم دروز المتين (...) وشيخ العقل نعيم حسن يعيّن الوكلاء على هذا الوقف منذ عام 2008 بموجب القانون الصادر في عام 2006». وأشار البيان الى أن «الخلاف هو بين أبناء المتين، إلا أن البعض يحاول جعل الخلاف بين أبناء البلدة ومشيخة العقل زوراً وافتراءً».