في الطريق إلى عماد مغنية، غابات كثيفة وأحراج شائكة، ولكن عليك بالأيك. هذا حبيب تُزار أيكه. في تكتل الشجر وتعانقه، تستسلم لطريق شُقّ بتعب. بمرور الزمن، طريق رِجل واحدة تمرّر جيشاً من الإنجازات. هنا مغارة، أنت تراها مرعبة، بينما كان «الحاج رضوان»، كما يطيب للمقاومين تسميته، يراها مختبراً لصنع إنجاز، لتطوير بدائيات حربية موروثة. «استفيدوا من كل تفصيل في بيئتنا، من كل ما ومن نسج معها علاقة ما». هكذا يلخّص أحد المطلعين على تجربة الرجل استراتيجيته في الصراع، خصوصاً ما بعد عام 2000.في إحدى تلك المغارات، «حبس» مغنية يوماً أحد الكوادر، سلّمه ملفًا وقال له: عليك به. نظر إليه الأخير بذهول وقال: مستحيل يا حاج. فما كان من عماد إلا أن أجابه: طيب ماشي الحال. ثم غادر المكان وقال للشباب: أغلقوا الباب واقطعوا عنه الخط الداخلي (العسكري). لم ينتظر الشاب طويلاً حتى خرج إلى الحاج ليقول له: فعلتها. كان يريد أن يقول لكل من معه: لا تقل: مستحيل، بل قل: حاولنا ولم ننجح.

يضيف المُطّلع: «لم يكن مغنية ساحراً تُفتح له الأبواب وتُذلّل أمامه الصعاب كما في القصص، بل كان ساحراً في قصته التي تُلَقَّنُ درساً في المثابرة والمبادرة، وفي التجريب والإخفاق والنهوض بعد الإخفاق». في هذا المعنى يعبّر أحد المقاومين: «رغم القرب من الحاج تبقى بعيداً عنه. بصراحة أقول، عندما التقيت به وعرفته عن قرب بحكم العمل، لم أشعر بأنه هو ذاك الشخص الذي سمعت عنه، نظراً إلى طريقة تصرفه، وتواضعه، وهدوئه، وأناقته. فالحاج شخص صاحب ذوق في اللباس مثلاً، حتى إن المحيطين به كانوا يقلّدونه! في الوقت عينه كان مذهلاً في الأداء العسكري والأمني. كان من رموز الحداثة والإبداع في الأمن والمقاومة». يضيف المقاوم: «على المستوى الشخصي كان كبيراً في كل حيثيات الحياة. فعلى قدر ما يهتم بالتفاصيل العسكرية والأمنية، ويهتم بظروف الشباب وأمورهم الخاصة، كان مترفّعاً، يغضّ النظر عن زلّة هنا أو هنّة هناك، حتى في الإخفاقات العسكرية. كان يجمع الشباب ليسأل معهم: أين قصّرنا؟ ماذا كان ينقصنا؟».
هنا يتدخل المطّلع ليقول: ضالة عماد مغنية كانت الشخص الصبور صاحب النفس الطويل، هذا لأنه أدرك نفسية العدو الإسرائيلي التي تقوم على النفس الطويل، إذ لم يكن مغنية يستخفّ بعدوّه. وينقل عنه النائب سليمان فرنجية قوله: العدو الإسرائيلي أكبر أستاذ لنا. لذا، يقول محدّثنا، «كان يتعلم من العدو، ويعرف أنه ينتظر لحظة تراخٍ وضعف حتى ينقضّ، فكلّنا لديه لحظة سهو. «الشطارة» في استغلال هذه اللحظة». وعليه فهو كان يقول: «هؤلاء لا يعرفون كل شيء. نستطيع أن نوهمهم، أن نخدعهم، أن يُخيّل إليهم أنهم في بداية حرب تموز 2006 ضربوا كل منصّات صواريخنا، وأنهم ألغوا هذا التهديد الاستراتيجي ثم نلتفّ من خلف الأرض المحروقة ونقصف تل أبيب».
هذا عماد مغنية نفسه الذي كان ينام في السيارة خلال التنقل من مكان إلى آخر، أو يقرأ القرآن، كان يهتم بطريقة غير اعتيادية ببيته وأولاده وإخوته، وحتى بأبنائهم. حين تُسأل فاطمة ابنته الكبرى كيف كان والدك يعوّض عليكم غيابه؟ تجيب: وجوده في الحياة أعلى من كل المعاني التقليدية. فلا معنى للسؤال: كيف كان لكِ كأب. هذا لا يمنع أنها كانت تشمّ ثيابه لأنها تشتاق إليه، أو ترابط وراء النافذة منتظرة ولوجه من ذاك الزقاق الذي كانت ترى فيه السرداب الذي يقول الشيعة إن الإمام المهدي المنتظر غاب منه غيبته الكبرى. فهذا الأمر جزء أساسي من تربية عماد مغنية. دائماً ما يتصدّى للشكوى من الغياب والبعد بسؤال الشاكي: أين التمهيد لصاحب الأمر؟
«قضينا العمر ناطرينو وبعدنا» تقول فاطمة. «أمي صوّرت لنا عمل والدي بأنه الجنة. فصرنا نتخيل غيابه عنا أمراً جميلاً جداً بالنسبة إليه. نترقب حضوره بشغف. طبعاً كانت حياتنا مربكة في المدرسة في التواصل مع الناس، خصوصاً حين يتطلب الأمر استعمال الاسم الشخصي. ولكن والدي لم يكن يريد لأيّ منا أن يتصرف، خصوصاً داخل مؤسسات حزب الله، على أنه يمتّ بصلة إلى الحاج رضوان. وحين كنا نراجعه في أمر ما، كان يجيب: ما خصني».
هذا «التنكّر» كان أسلوب حياة عند عماد مغنية. فهو لا يتصرف أنه الآمر الناهي، وأنه صاحب القرار. وفي بعض الاجتماعات التي ينبغي أن يكون حاضراً فيها، كان يحضر من دون أن يعرف به الآخرون، يستمع ويدوّن ملاحظاته، وقد لا يتكلم إطلاقًا. وفي النقاشات المفتوحة والمشخصة فيها هويته لم يكن يتصرف على أنه القائد الذي إذا تكلم سكت الجميع، بل كانت شخصيته تستبطن تحفيز الفريق ودعم الرأي بالرأي، يقول المطّلع.
يجمع كثيرون على التأثير الكبير لوالدته في شخصيته. يقول أحد أصدقائه وجيرانه في الشياح: «لو لم يكن عماد يملك قوة داخلية تحصّنه، وهذه اكتسبها في البيت وبعناية والدته، لكان شخصاً آخر منذ زمن بعيد؛ لأن المغريات التي عُرضت عليه طوال مسيرته تعرّض أي إنسان للانحراف. وهو كان يملك مقوّمات شخصية: صوت جميل، طلّة حلوة، طاقة ذهنية عالية. رمى نفسه في أتون بكل معنى الكلمة. تلطّف الله به بفضل دعاء أمه».
تستذكر الحاجة أم عماد حادث سير تعرضوا له في منطقة المصيلح ــ الزهراني، حينها نجوا بأعجوبة وكان معهم عماد طفلًا ابن أشهر، فرأى والدها أن نجاتهم كانت بفضل هذا الطفل وقال لها: «ديري بالك عليه إلو مستقبل». يوم التحرير حضر إليها عماد ليصطحبها في جولة على الحدود، فما كان منها إلا أن سألته: هل تظن أنك تستطيع الآن التنقل بحرية؟ فقال لها: لا تهتموا بالتفاصيل، افرحوا في هذا اليوم. خلال الجولة كان الحاج عماد يشرح لأهله وإخواته وأبنائهم بعض التفاصيل عن جغرافيا المنطقة ووجود قوات الاحتلال. تستوقفه والدته: وأنت من أين لك هذه المعلومات. يجيب: الشباب شرحوا لي كل شيء!
تقول شقيقته ناهدة: «كنا نعلم أنه شخص أساسي في المقاومة، ولكن ما كنا نتخيّل أنه لهذه الدرجة مطلع على كلّ تفصيل. حين أزور الجنوب أشعر أنه موجود في كل حرج، ووراء باب كل مغارة. شقيقي عماد كان ابن الأرض، أحَبّ فلسطين، ولا أحد يعلم لماذا». تستذكر ناهدة حقبة الثمانينيات وبداية المقاومة، وتحديداً «معركة الغبيري». يومها جرى تدمير ملالة للاحتلال. على بعد أمتار من مرقده في روضة الشهيدين، سقط عماد مغنية يومها جريحاً عند محطة سليم، في الليلة التي سبقت مجزرة صبرا وشاتيلا. لم يكن من طبيب يعالج جرحه، انقطع وتر فخذه، لم يُشف منه بشكل كامل، تماماً مثلما لم يُشف من وصل المقاومة الفلسطينية وفلسطين. تلك المعركة كانت كفيلة بكشف هذه المجموعة. مجموعة قُيّد لها وراثة المقاومة الفلسطينية، روحاً نضالية ومخازن أسلحة وأسراراً، عُرف بعضها وأُخفي أعظمها، ومن هذه المجموعة: عماد مغنية وعلي ديب (أبو حسن سلامة)، وبقية النواة التي أسّست حزب الله عسكرياً في خريف عام 1982. وناهدة شاهدة على تجهيز عملية الاستشهادي أحمد قصير. في تلك الفترة اختفى عماد، وصار يتجنّب الضوء. حتى في تجهيز العمليات لم يكن كل المقاومين يعرفونه. كان يستعين بشقيقه الأصغر جهاد، ليكون رابطاً بينه وبين المقاومين على الأرض، كرضا حريري وأسعد برو وآخرين كثر. وكانت ناهدة ترافق شقيقها لتمويه المهمة التي أوكلها إليه عماد.
أما استشهاد الحاج فقصة أخرى. يصف صديق له الخسارة بأن يموت عماد ميتة عادية. يقول والده، الحاج فايز مغنية، «حين استشهد جاء من يخبرني أنه تعرّض لحادث سير ووضعه خطير. صُعقت: هل هذه نهاية عماد، حادث سير؟ ولكن في ما بعد تكشفت حقيقة الأمر وكنت فخوراً. فابني حيّر أعداءه 25 عاماً، ولكنه لم يكن مختبئاً». يفتخر الوالد بقول رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني: كل واحد في إيران هو عماد مغنية، رداً على انتقاد الولايات المتحدة لزيارة ظريف لضريحه في بيروت. والدته كانت تدعو ليلها ونهارها بأن يستشهد، لأن هذه نتيجة طبيعية ومجزية لكل هذا النضال.
قرب فاطمة تجلس إيمان، ابنة فؤاد الشقيق والشهيد الثاني في عائلة فايز مغنية. حتى هي لم تُهمل في تفاصيل عماد. تقول «مرّة كنت أهم بالخروج من أحد المباني ومعي صديقتي، إذا بي أُفاجأ بعمي داخلًا إلى المبنى، فتصنّعت عدم رؤيته حتى لا أُحرجه وأُحرج نفسي، لأنني لا أعرف ماذا أقول عنه لصديقتي، فما كان منه إلا أن أخذني بالأحضان، وسألني عن أحوالي. هنا صديقتي لم تطق صبراً: من هذا الذي يحلّ له احتضانك وتقبيلك. فقلت لها: هذا شقيق جدي!».
تتحدّث ناهدة عن عماد بصيغة الجمع. أستوقفها لأعرف من كان معه، فيأتي الجواب: «ما زلنا لم نعتد الحديث عنه إلا هكذا. يُذكر بإيماء. نُدعى لنراه بشيفرة: أكلة ما أو طرفة. مرة اجتمعنا في منزلي على الغداء، وكان الحاج موجوداً، فجأة طُرق الباب فإذا به والد صهري. قلت لأخي عماد هيا بنا إلى غرفة الجلوس، وهذا إجراء اعتدناه في مثل هذه الحالات. إلا أنه رفض وقال: دعوه يتفضّل. دخل الرجل وكان لا يعرف عماد، وبدأ يتحدث معه في السياسة. لم يهمل عماد وجوده وأنصت إليه وتجاوب معه. سأل الرجل همساً عنه، فأُجيب بأنه قريبنا من القرية. وهكذا مرّ الأمر إلى أن أُعلن استشهاده واكتشف الرجل أنه جالس عماد مغنية يوماً». تضيف «ونحن لا نختلف كثيراً عن هؤلاء، نسأل أنفسنا دائماً: هل عرفنا شقيقي يوماً؟ هل شبعنا من حضوره؟ الدنيا بلا طعم ولا لون من دونه. ولكن لا شيء يثنينا عمّا طلب. عزاؤنا في ما ترك، وقد ترك الكثير الكثير. ما زلنا ننتظره كالعادة».