الكويت | من قصر بعبدا إلى الطائرة في طريقه إلى الكويت، انقضت ساعات طويلة كانت قد بدأت منذ مساء اليوم السابق، 14 شباط. ليلتذاك، تلقى رئيس مجلس النواب نبيه بري اتصالات متتالية ترجح إبصار حكومة الرئيس تمام سلام النور بين ساعة وأخرى، كي يتحضّر للتوجه إلى قصر بعبدا والاطلاع على التشكيلة الجديدة.
لم يُدع في التاسعة، ولا العاشرة، ولا الحادية عشرة، ولا الثانية عشرة. الثانية عشرة والنصف تلقى من سلام مكالمة ترجّح التأليف في اليوم التالي. ردّ بري بأنه جاهز حتى الظهر. قال الرئيس المكلّف: بعد الظهر ربما. ردّ رئيس المجلس بأنه سيكون في الطائرة في جولة تقوده إلى ثلاثة بلدان هي الكويت وإيران وألمانيا، «وإلا فانتظروا عودتي بعد سبعة أيام».
نُظِر إلى سفر بري على أنه مناورة اعتادتها مهارته، ووسيلة ضغط لاستعجال التأليف. أجرى الرئيس سعد الحريري أكثر من مكالمة من الرياض بأصدقائه في بيروت للتحقق من جدية سفره، أو أن الرجل يمارس ضغوطاً لتأليف الحكومة. في موعد إقلاع الطائرة، الثانية بعد الظهر، كان رئيس المجلس مطمئناً إلى تأليف حكومة استغرق مخاضها، لأول مرة في تاريخ تأليف الحكومات، عشرة أشهر وتسعة أيام.
في قصر بعبدا اطلع على التشكيلة التي اقترحها الرئيس المكلف على رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وسجّل ملاحظات أُخذ ببعضها. بعضها ارتبط بعدم ملاءمة اختصاص الوزير مع الحقيبة التي عُهد إليه فيها. لم تكن القاضية، ولا النقيب السابق للمحامين، ولا الضابط السابق، ولا الصحافي السابق، في الحقيبة التي يقتضي أن يضع فيها خبرته المهنية. تفهّم رئيسا الجمهورية والحكومة وجهة نظره ووافقاه إياها، إلا أن «المصلحة السياسية»، كما أسرّ بري في ما بعد، حتّمت توزير هؤلاء وسواهم في تلك الحقائب.
يقول: ليست حكومة تقنيين حتى يحل كل في مكانه المناسب، بل حكومة سياسية تفرض التوزير السياسي. في الحكومة السياسية من الطبيعي أن يحل سياسيون وحزبيون يستمدون قوتهم من التوزير السياسي لا من الحقيبة فحسب. مع ذلك لا يتردد في القول: «علي حسن خليل ليس طبيباً وشغل وزارة الصحة. الآن بات يكتب لنا وصفات أدوية».
بانتهاء تشاور سليمان وبري وسلام، التقطت الصورة التذكارية للحكومة الجديدة بعدما حضر وزراؤها إلى قصر بعبدا، قبل أن يُعلن أن رئيسي الجمهورية والحكومة وقّعا مراسيم التأليف، وكانوا قد تلقوا مكالمات هاتفية تستعجلهم، في سباق مع ساعة رئيس المجلس.
على ساعته مرت الساعات الأخيرة من التأليف: اجتماع الرئيسين أولاً، ثم انضمام رئيس المجلس إليهما لوقت غير مألوف، ثم توقيع المراسيم وإعلانها، انتهاءً بالصورة التذكارية. كان يقتضي أن يحصل ذلك كله قبل الثانية عندما تقلع طائرة بري.
لفتته أنها المرة الأولى تلتقط صورة تذكارية للحكومة الجديدة، لحظات بعد صدور مراسيم التأليف، خلافاً لتقاليد قضت بأن يكون التقاطها في اليوم التالي، أو الذي يلي، قبل انعقاد الجلسة الأولى لمجلس وزراء الحكومة الجديدة لتأليف لجنة صوغ البيان الوزاري.
في رأي رئيس المجلس، إن عمر الحكومة حتى 25 أيار المقبل، وهو اليوم الأخير من ولاية سليمان، يفترض أن تكون في حكم المستقيلة دستورياً، بعد أن يكون قد انتُخب رئيس جديد للجمهورية وأقسم اليمين الدستورية إلا إذا... حتى ذلك الوقت، للحكومة أن تجتمع وتعمل وتذهب إلى مجلس النواب حتى اليوم العاشر الذي يسبق نهاية الولاية، 15 أيار، عندما يصبح البرلمان في انعقاد حكمي لانتخاب الرئيس في ما بقي من المهلة الدستورية.
بيد أن أبرز ما أفضى إليه تأليف الحكومة، استعادة مجلس النواب جلسات هيئته العامة المعطّلة منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بسبب معارضة الأخير مثول حكومة مستقيلة أمامه، ومعارضة تيار المستقبل وحلفائه انعقاده في ظل حكومة مستقيلة أيضاً.
عندما سئل: هل لا يزال جدول الأعمال هو نفسه لجلسة محتملة بعد نيل الحكومة الجديدة الثقة، وقد رفضته قوى 14 آذار طوال الاشهر المنصرمة، ردّ بري: «طبعاً، إلا إذا كان للرئيس سلام رأي ما».
دمج انضمام رئيس المجلس إلى اجتماع رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، قبل توقيع مراسيم التأليف، العرف بالدور الذي يجعل منه شريكاً غير مباشر في التأليف. ليس في الدستور ما يقتضي مشاركة رئيس البرلمان في هذا الاجتماع الذي ساقه عرف وتقليد في الحياة السياسية اللبنانية منذ الاستقلال. لا يوقع رئيس الجمهورية والرئيس المكلف المراسيم قبل اطلاع رئيس المجلس على التشكيلة الجديدة والوقوف على رأيه. ليست للأخير صلاحية دستورية، بل له أن يبدي رأياً في التشكيلة الحكومية تأييداً أو تحفظاً أو تسجيل ملاحظات، يقرر الرئيسان ــــ من دون أن يكونا ملزمين ــــ الأخذ بها كلياً أو رفضها كلياً أو الاستجابة لها جزئياً. عند هذا الحد ينتهي دور رئيس المجلس في التأليف، خلافاً للمادة 53 من الدستور التي تحتم على رئيس الجمهورية اطلاعه على الاستشارات النيابية الملزمة التي يكون قد أجراها، ولا يسعه تسمية الرئيس المكلف قبل اجتماعه برئيس البرلمان. لكن الواقع أن الدور يتقدّم الصلاحية الدستورية.
بعد انصراف رئيس المجلس يوقع رئيسا الجمهورية والحكومة المراسيم ويعلنانها. في الغالب، وخصوصاً بعد اتفاق الطائف، كان الثلاثة يتفقون على التشكيلة ثم تصدر تبعاً لاتفاقهم هذا، ما خلا حالاً واحدة فاجأت بري. بعدما أنهى اجتماعه في 26 تشرين الأول 2004 بالرئيسين إميل لحود وعمر كرامي واتفقا على التشكيلة النهائية للحكومة الجديدة، غادر. في الطريق سمع من الراديو المراسيم، وباغته تعيين النائب عبد الرحيم مراد وزيراً للدفاع من دون أن يكون اسمه مدرجاً في التشكيلة التي ناقشها مع لحود وكرامي.
حكومة الـ24 يشترك فيها فريقا 8 و14 آذار للمرة الأولى منذ استقالة حكومة الحريري مطلع عام 2011، ينظر إليها رئيس المجلس بتفاؤل. قال بمرارة طاوياً تجربة الحكومة المستقيلة التي استمرت أكثر من سنتين: «إن شاء الله لا تقع فيها مشاكل، ولا أعتقد أنها ستقع في مشاكل بحجم تلك التي خبرناها في الحكومة الأخيرة، حكومة اللون الواحد». يضيف: «إنها حكومة الممكن. هل يقتضي أن ننتظر عشرة أشهر أخرى لتأليف الحكومة؟».
حينما يُسأل عمّن ربح أكثر في الحكومة الجديدة، قوى 8 أو 14 آذار، يجيب أنها حكومة الفريقين: في حكومة اللون الواحد حصدت قوى 8 آذار كل الحقائب. في الحكومة الائتلافية يقتضي تقاسمها لتأكيد الشراكة والائتلاف. يضيف: «كان هناك توازن في توزيع الحقائب الوازنة، وكذلك الخدماتية». حصلت قوى 8 آذار على المال والخارجية والأشغال العامة والنقل والطاقة والتربية، وقوى 14 آذار على الداخلية والعدل والاتصالات والعمل والشؤون الاجتماعية. بينما نال وليد جنبلاط حقيبتي الصحة والزراعة.
كانت قد بلغت إليه ملاحظات من الفريق الآخر، اعتبرت أنه لم يحز حقائب في حجم تنازلات قدمها لخصومه لتسهيل التأليف: تنازلت قوى 14 آذار أكثر مما حصلت عليه. أُعطيت حقيبة سيادية واحدة هي الداخلية، فيما نالت قوى 8 آذار اثنتين سياديتين هما المال والخارجية، وذهبت الحقيبة السيادية الرابعة، الدفاع، إلى رئيس الجمهورية. سمت قوى 8 آذار وزراءها من دون أن يتدخل أحد في هذه الأسماء، فيما جوبهت قوى 14 آذار بفيتوات على أسماء وزراء اقترحتهم ورفضهم فريق 8 آذار الذي لم يسمح لسواه بالتدخل في اقتراح وزرائه. أسقط فيتو 8 آذار تعيين اللواء أشرف ريفي وزيراً للداخلية. بعض هذه الملاحظات التي بلغت إلى رئيس المجلس أدلى بها الحريري.
يروي بري أنه خابر الحريري صباح السبت وتحدث معه في خطابه في احتفال بيال، الذي حرص فيه الحريري على التوجه إلى رئيس المجلس مباشرة، مناشداً إياه التدخل. قال له بري في المكالمة: «قلتَ إن هناك مسائل كثيرة يمكن أن تطرحها عليّ، ولكنك تطلب أمراً واحداً هو موضوع سوريا (انسحاب حزب الله منها). ماذا لو تعكس الآية. اطلب كل المسائل الأخرى إلا هذا»!