يُعدّ حزب «أغودات يسرائيل» من أهمّ الكيانات التنظيمية الكبرى لـ«الحريديم»، التي تفرّعت منها أو انشقت عنها أبرز الأحزاب الدينية في الكيان الإسرائيلي، ومنها «ديغل هتوراه»، و«شاس»، و«بوعالي أغودات يسرائيل». تأسّس «أغودات يسرائيل» عام 1912، في ردّ فعل ديني على الصهيونية. نجاح الحزب لا يكمن في أن مؤسِّسيه استقطبوا ما أمكنهم من اليهود المتدينين في مواجهة الحركة الصهيونية فحسب، بل في أنهم استطاعوا جمع الأضداد من «الحسيديم» و«الليتوانيين» مِمَّن ذهبوا في عدائهم البيني إلى حدود التكفير، وهو الأمر الذي كان يصعب تخيّله. اجتماعٌ يجلّي النظرة المشتركة لدى «الحريديم» حينذاك لحجم تهديد الصهيونية، والخوف منها على الذات والهوية اليهودية التقليدية.في الأصل، تمثل الكيانات التنظيمية التقليدية لـ«الحريديم» انعكاساً لمدارس ومذاهب وطُرق دينية منتشرة في القارة الأوروبية، ضمن غيتوهات أو أماكن تجمّع سكنية يهودية، تكون في العادة مغلقة على نفسها، ويقودها عدد من الحاخامات، وهي موزعة بين «الليتوانيين» أي الحريدية التقليدية، و«الحسيديم» المعارضين للتوجهات التقليدية للحاخامات وتفسيراتهم للشريعة والنص وماورائيات هذا النص وفلسفة الدين. أما «أغودات يسرائيل» تحديداً، فقد ولد من رحم التموضع الدفاعي لـ«الحريدية» ضد الانجراف الواسع النطاق لدى الشبان اليهود لتأييد الحركة الصهيونية والحركات الحديثة الأخرى، وكذلك ضد ظاهرة ارتداد الشبان اليهود عن الدين، واعتناقهم المسيحية أو ذوبانهم في أيديولوجيات إلحادية.
وعلى رغم موقف «أغودات يسرائيل» المعادي للصهيونية، إلا أن «الحريديم» لم يجدوا بداً من التعاون مع الصهاينة خلال مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، وزيادة الهجرات اليهودية من أوروبا. لقد كان لتقلّص قدرة اليهود الملتزمين الشريعة، وأولئك التقليديين منهم، على حماية أنفسهم عبر التمايز عن الآخرين، وكذلك الحرب العالمية وعداء النازية وما نتج منهما، الدور الأكبر في دفع «الحريديم» إلى طلب الهجرة إلى فلسطين. وبالنظر إلى سيطرة الصهاينة آنذاك على «الوكالة اليهودية» التي تعطي تصاريح الهجرة إلى فلسطين، فقد اضطر «الحريديم» إلى التحادث ثم التعاون في «الشتات» كما في فلسطين نفسها لاحقاً، علماً أن هذه الفترة حملت إشارات دالة على أن الدولة اليهودية تكاد تكون حقيقة واقعة، وأن الصهاينة يتجهون نحو النجاح الفعلي، على رغم توقعات «حريدية» سابقة بفشلهم.
على هذه الخلفية، أقنع «أغودات يسرائيل» نفسه بإمكانية اتخاذ موقف غير سلبي تجاه إسرائيل الدولة والصهاينة، على أمل التأثير فيها ودفعها إلى «طريق التوراة»! حينها، توصل الطرفان إلى تسوية تضمن لـ«الحريديم» الممثلين بـ«أغودات يسرائيل» سلة مكاسب في الدولة الوليدة، تتعلق بسيطرة حصرية «حريدية» على قوانين الأحوال الشخصية والتهوّد، وتأجيل الخدمة في الجيش، والاستقلال التام في التربية والتعليم والمناهج التعليمية، في مقابل تلقّي الصهاينة فوائد، لا تقتصر على تقليص تظهير العداء لدى معظم الجماعات «الحريدية»، وصدّها عن السعي للإضرار بالدولة الوليدة، بل أيضاً الاستفادة من حضورها المادي ضمن تفاهمات في فلسطين نفسها، الأمر الذي شكل عامل جذب إضافياً ليهود الشتات، وزاد وتيرة هجرتهم.
استمرّ «ائتلاف المصالح» بين الجانبين، وترجماته العملية بائتلاف «أغودات يسرائيل» مع الصهاينة في «مجلس الدولة المؤقت» (الكنيست لاحقاً)، إلى أن قررت الحركة الانسحاب من الائتلاف عام 1952، على خلفية قرار تجنيد الإناث في الجيش الإسرائيلي، وهو ما عُدّ لدى «الحريديم» قراراً لا يمكن التعايش معه. وطوال 25 عاماً، بقي «أغودات يسرائيل» خارج الائتلاف والحكومات حتى عام 1977، حين قرر العودة بعيد سيطرة حزب «الليكود» على السلطة بقيادة مناحيم بيغن، في ما عُرف حينها بثورة 1977، مع السقوط المدوي لحزب «العمل» (المعراخ حينذاك). وقد رافقت عودةَ «أغودات يسرائيل» إلى الائتلاف الحكومي زيادةُ دعم الدولة للقطاع «الحريدي» وزيادة التشريعات الدينية. ومع انقسام القوس السياسية في إسرائيل إلى كتلتين، يمينية ويسارية، تعززت قوة «أغودات يسرائيل»، الذي بات الائتلاف معه عامل تثقيل للوزن السياسي، وهو الأمر الذي زاد من قدرته على التأثير، وفتح شهيّته على الابتزاز.
طوال 25 عاماً، بقي «أغودات يسرائيل» خارج الائتلاف والحكومات حتى عام 1977


في الثمانينيات، وكجزء من النمو الطبيعي للمجتمع «الحريدي»، وقعت انقسامات بين «الحريديم» الذين بقوا متحدين ضمن حزب «أغودات يسرائيل» حتى ذلك التاريخ. حدث الانقسام الأول خلال الانتخابات البلدية في بداية الثمانينيات، عندما قرر جزء منهم، من ذوي الأصول الشرقية الذين لم تكن لديهم مكانة وتمثيل متناسب مع عددهم في «أغودات يسرائيل»، الاستقالة والترشح لانتخابات مجلس مدينة القدس (البلدية). ومع النجاح الباهر الذي حققوه في تلك الانتخابات (1983)، وتمكّنهم من تشكيل قائمة «حريدية» شرقية مشابهة لانتخابات مجلس مدينة بني براك، طغى الحسّ الشرقي على ما عداه، ليتأسّس حزب «شاس» بوصفه ممثلاً لليهود الشرقيين، وتمكن لاحقاً من تحقيق مفاجأة في الانتخابات العامة عام 1984، بفوزه بأربعة مقاعد في الكنيست. أما المجموعة الأخرى التي انفصلت عن «أغودات يسرائيل»، فهي المجموعة «الليتوانية»، بقيادة الحاخام شاخ، بعدما شعر «الليتوانيون» أيضاً بأنهم مغبونون ومحرومو القيادة التي كانت في أغلبها «حسيدية». انشقّ معظم هؤلاء قبل انتخابات عام 1988، وشكّلوا حزباً حمل اسم «ديغل هتوراه»، الذي خاض الانتخابات منفرداً، وفاز بمقعدين في الكنيست، وفّرا له حضوراً ونفوذاً سياسياً لم يكونا لـ«الليتوانيين» في السابق.
لكن منذ عام 1992، تآلف الحزبان «الحريديان الأشكنازيان»، أي «أغودات يسرائيل» والحزب المنشقّ عنه «ديغل هتوراه»، في قائمة واحدة، هي «يهودت هتوراه»، وذلك على خلفية قسرية، بعد زيادة الحد الأدنى المطلوب من أصوات المصوّتين في انتخابات الكنيست للحصول على تمثيل برلماني. حافظ «الحريديم الأشكناز» على هذا التعاون حتى اليوم، مع الاتفاق على أن يكون لـ«الحسيديم»، أي «أغودات يسرائيل»، عدد مقاعد أكبر في اللائحة مما هو لـ«ديغل هتوراه». ومع إثبات «الليتوانيين» قوتهم في الانتخابات البلدية الأخيرة (2018)، اضطر حزب «أغودات يسرائيل» إلى الموافقة على تقاسم متساوٍ لعدد مقاعد اللائحة في الكنيست، وكذلك في مقاعد الحكومة المقبلة.

صعود «شاس» وهبوطه
حقق حزب الشرقيين، «شاس»، نجاحاً كبيراً على مرّ السنين بقيادة الحاخام عوفاديا يوسف، مؤسس الحزب. وبين عامي 1996 و2013 كان عدد ممثليه في الكنيست بين 12 و17 و10 مقاعد. وبحسب مركز «إسرائيل للديموقراطية»، يكمن سرّ نجاح «شاس» في كونه حزباً غير مغلق وغير محصور بـ«الحريديم»، إذ يستقطب جمهور الشرقيين التقليديين بشكل واسع، على نقيض حزب «أغودات يسرائيل»، الذي تُعدّ الأغلبية الساحقة من ناخبيه من «الحريديم الأشكناز». بعد وفاة عوفاديا يوسف، تقلّصت مقاعد الحزب في انتخابات عام 2015 إلى 7 مقاعد في الكنيست، ليضحي مهدداً بالسقوط في انتخابات نيسان/ أبريل الماضي. ويعود ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسة: وفاة مؤسِّسه الذي كان قوة جاذبة للتصويت له، وخسارة الناخبين الشرقيين التقليديين غير «الحريديم»، وانشقاق قياديين عن الحزب، ما سبّب خسارته قسماً من جمهوره. مع ذلك، استطاع الفوز بـ8 مقاعد في الانتخابات الأخيرة، في نتيجة فاجأت المراقبين.

أحزاب وجماعات «حريدية»
واحد من أبرز الأحزاب «الحريدية» في تاريخ الاستيطان اليهودي، ومن ثم الدولة الإسرائيلية، حزب «عمال أغودات يسرائيل» (باغي)، الذي تأسس في بولندا في عشرينيات القرن الماضي. وعلى خلاف «أغودات يسرائيل» الذي كان يركز على الإنسان اليهودي وإعادته إلى التزام الشريعة وأحكامها، ركّز حزب «باغي» على الاستيطان اليهودي في فلسطين وعلى السياسة بشكل عام، إلا أنه اختفى سياسياً في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
في السنوات الأخيرة، نمت فئة من «الحريديم»، مِمَّن يُطلَق عليهم اسم «العمال الحريديم» أو «الحريدية الحديثة». معظم هؤلاء لا يرغبون في التصويت للأحزاب «الحريدية» التقليدية الثلاثة الموجودة حالياً في الحياة السياسية في إسرائيل. انشغالهم بالعمل والعمالة على غرار الإسرائيليين الآخرين، وكذلك اهتمامهم بالقضايا الأمنية والسياسية وتطوراتها وتأثيرها بأوضاعهم المعيشية، دفعت جزءاً منهم إلى التصويت للأحزاب العلمانية، وتحديداً حزب «الليكود»، الذي استطاع سحب مقعدين من «الحريديم» يمثلان هذه الشريحة، التي تُقدَّر نسبتها بما يقارب 17٪ منهم. على هذه الخلفية أيضاً، حصد حزب «أزرق ـــ أبيض»، بقيادة رئيس الأركان السابق بني غانتس، مقعداً لـ«الحريديم»، في مفارقة ما كانت لتقع من دون تغطية شرعية من حاخامات لا يريدون التصويت للأحزاب «الحريدية» الثلاثة. كذلك، شريحة العمال «الحريديم» هي التي راهن عليها المنشق عن حزب «شاس»، ومؤسس حزب «ياحد» «الحريدي» في الانتخابات الأخيرة، إيلي يشاي، على رغم أن «ياحد» لم يتجاوز العتبة الانتخابية المطلوبة، لكنه سحب من هذه الفئة نسبة وازنة.
تبقى الإشارة إلى مجموعات حريدية لا تصوّت للكنيست لأسباب أيديولوجية دينية، سواء للأحزاب «الحريدية» أو غيرها، ضمن الوفاء للنظرة التقليدية الدينية الرافضة للصهيونية والدولة الإسرائيلية. وتبرز من بين هذه المجموعات جماعة «ناطوري كارتا»، و«التجمع الحريدي»، وكذلك «فصيل القدس» الذي انفصل عن «الليتوانيين» أخيراً، ودعا إلى مقاطعة الانتخابات. ويُقدَّر عدد «الحريديم» المقاطعين للانتخابات بما يصل إلى 15٪ منهم.