اكتسبت رخصة الزجاج الحاجب للرؤية (Fumé) شرعيتها من مرسوم أصدرته وزارة الداخلية في إحدى حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري، بحجة توفير موارد جديدة للخزينة العامة. بعدها، أدّت سردية الظروف الأمنية دوراً في الإبقاء على «شرعية» هذه الرخصة التي عاد النقاش فيها إلى الواجهة، أخيراً، بعدما أسقطت لجنة المال والموازنة، أثناء مناقشتها مشروع موازنة 2019، المادة 61 المتعلقة بفرض رسوم على الزجاج الداكن.لحسن الحظ، لم تمرّر اللجنة مادة ترخيص «الفوميه». فإلى جانب مخالفتها للدستور، باعتبار أن «المجلس النيابي وحده من يقونن الرسم ويعفي منه»، رفض بعض النواب تعميم الترخيص وتشريعه مقابل رسم محدد (مليون ليرة لبنانية) ليصبح في متناول «راكبي الموجة». إسقاط المادة يعدّ خطوة جيدة لكبح تمدد ظاهرة «التفييم». لكنها تبقى خطوة ناقصة ما لم يتبعها مسعى جدي للتخلي تماماً عن «الفوميه» والاعتراف بانتفاء الحاجة - حتى الطبية - إليه. المشكلة الأساسية، إذاً، تكمن في تمسّك السلطة بشرعية الترخيص من الناحيتين الأمنية والطبية، تمهيداً لقوننته لاحقاً، أي في حال إعادة وزارة الداخلية إحياء مشروع قانون تنظيم رخص «الفوميه» بعد انتهاء مهلة تمديد العمل بالتراخيص في 30 أيلول المقبل. وهذا ما يعيد إلى مضمون مشروع القانون الذي أعدّه وزير الداخلية السابق، مروان شربل، لـ «تنظيم هذه الظاهرة وضبطها» كما يقول. إذ يعفي «أصحاب السيارات العائدة للنواب والوزراء وقضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق ورؤساء المحاكم والقضاة المنفردون الجزائيون ورؤساء الطوائف والأحزاب والسيارات العسكرية والبعثات الدبلوماسية» تماماً من الرسوم المنصوص عليها. وإذا كانت «المخاطر» المفترضة مفهومة بالنسبة إلى «بعض» هؤلاء، إلا أن ما ليس مفهوماً - ولا علمياً - هو البند الذي يجيز الترخيص لـ«صاحب السيارة المصاب بمرض ناجم عن أشعة الشمس»، على أن يبرز تقريراً طبياً مصدَّقاً عليه من وزارة الصحة يثبت هذه الإصابة. وهذه مجرد «خزعبلات»، كما يصفها البروفيسور المتخصّص في طب وجراحة العيون، ربيع الصانع لـ«الأخبار». إذ إن تعتيم الزجاج «غير ضروري»، حتى بالنسبة إلى المصابين بحساسية العين من الضوء. هؤلاء «بإمكانهم، بكل بساطة، أن يرتدوا نظارات شمسية» أو ما يعرف بنظارات الـ«Yellow Filter»! بدوره، يؤكد المدير العام لمجلس البصريات لدول شرق المتوسط وعضو مجلس إدارة «المنظمة العالمية للبصريات»، حسان عواضة، أن من يعانون من الـ«فوتوفوبيا» (رهاب الضوء)، وخلافاً للشائع، لا يلائمهم على الإطلاق «الزجاج الداكن الأسود الذي غالباً ما يُستعمَل في البلدان الحارة والصحراوية لتخفيف كمية الضوء والحرارة» الناتجة من أشعة الشمس. أكثر من ذلك، يؤدي الزجاج الداكن إلى «تعتيم الرؤية أكثر لهؤلاء» ويفاقم من أزمتهم!
يؤدي الزجاج الداكن إلى تعتيم الرؤية أكثر للمصابين بحساسية العين ويفاقم من أزمتهم


وبالنسبة إلى نوع الزجاج الأكثر ملاءمة لهؤلاء من الناحية الطبية، يشير الاختصاصي في فحص النظر، نظمي الحاج، إلى الفروقات بين تخفيف الضوء الذي يتيحه الزجاج الداكن، وتخفيف نسبة التعرض للأشعة فوق البنفسجية (UV) الممكنة عبر زجاج طبي شفاف. وهنا، ينبّه الحاج من «سيئات الزجاج الداكن الذي لا يعزل الـUV على الإطلاق»، مشيراً إلى أن التعتيم، خصوصاً لدى مرضى «الفوتوفوبيا»، «يوسّع من حجم بؤبؤ العين خلال فترة النهار تحديداً، ويسمح بدخول كمية أكبر من الأشعة ما فوق البنفسجية»، وهو ما يمثّل «ضرراً بالغ الخطورة».
رغم ذلك، يفيد آخر الإحصاءات بوجود أكثر من 55 ألف سيارة بزجاج عازل للرؤية في لبنان، بحسب مصادر في وزارة الداخلية والبلديات. إلا أن «هذا الرقم يعود إلى 2012، وقد ارتفع أكثر من ذلك بكثير»، ما يشير إلى نمو ظاهرة «التفييم» وتمدّدها بلا رقيب. هذا السلوك «اللبنانوي» غير المستجدّ، عزت أستاذة علم نفس البينيّة الثقافية، سحر حجازي، «أسبابه الكثيرة» إلى عوامل نفسية انطلاقاً من «أناسٍ يستمدون تقديرهم لذاتهم من خلال نظرة المحيط لهم». وثمة أيضاً «حب الظهور» الذي يأتي، وفق تفسير حجازي، «نتيجة تنشئة أسرية» تخلق أهمية لـ«حسن المظهر والتفوّق كترضية بالشعور بالتميّز». وهي تنشئة قد تأتي معاكسة في أحيانٍ كثيرة، بحيث إن «تعرّض الفرد للتهميش الاجتماعي داخل أسرته أو محيطه، يخلق ردّ فعل عكسياً» يتجلى في حبّ الظهور، كخيار «التفييم» أو حيازة السلاح مثلاً، «للتعويض عن الذات المجروحة».
ومن المنحى الاجتماعي، تتحدّث الحاج عن «بنية طبقية تستند إلى تصنيفات تحددها العلاقات الاجتماعية». بمعنى أوضح، «يصنّف البعض أنفسهم في خانة اجتماعية مرموقة» من خلال وضع الزجاج العازل، على اعتبار أنه «مخصّص للسياسيين ورؤساء الأحزاب والمشاهير»، الأمر الذي يؤسس لما سمّته «عدوى اجتماعية وتبعيّة» سعياً للتماثل.