في مسلسل «هوملاند» المثير للجدل والمفضّل لدى باراك أوباما، ينجح «الموساد» في اختطاف رجل الأعمال الإيراني، «فرهاد نفيسي»، المرتبط بالحرس الثوري. تنفَّذ العملية بالتعاون مع الأميركيين على الأراضي الإماراتية عبر استدراج نفيسي عن طريق فتاة تقوم بغوايته، والسبب معلومات لدى الإسرائيليين أن الإيرانيين يقومون بخرق الاتفاق النووي من خلال برنامج مواز سريّ في كوريا الشمالية. بعد أن يشرع ضابط الـ«سي آي إيه»، «سول بيرينسيون»، في استجوابه، يدور حوار ملفت بين الرجلين. يقول الإيراني في الختام: «هناك أمر ينبغي أن تعرفه؛ لا تريد إيران سلاحاً نووياً، لم ترده قط. كان استمرار العقوبات ثلاثة عقود يقتلنا. كان علينا إيجاد سبيل لرفعها، فبدأنا بتشغيل أجهزة الطرد المركزي. لفتنا بذلك بعض الأنظار... في النهاية ما كان علينا إلا التفاوض لترك برنامج لم نرده أساساً»!تتحرّك أجهزة الطرد المركزي، فتشتغل إذاً قنوات الدبلوماسية. تُرفع نسبة تخصيب اليورانيوم، فيهرول الوسطاء بمبادراتهم نحو طهران. معادلة يبدو أنها لا تزال سارية المفعول. تخوض طهران «لعبة النووي» على مستويين؛ الأول، ضمن سياق حاجات التنمية الداخلية. أما الثاني، فيتمثل في إبراز المشروع كمادة ترهيب واستعراض للقوة. والمفارقة أن طهران لم تخفِ قواعد اللعبة، وهي تؤكد كل يوم أن مرشدها علي خامنئي يفتي بحرمة ليس استخدام أسلحة الدمار الشامل فحسب، بل حتى صناعتها واقتنائها من الأساس. لا ينفكّ الإيرانيون يستشهدون بتجربة محمد مصدق، الذي لم يكن لديه برنامج نووي ليستعمل ذريعة للانقلاب على حكومته المنتخبة. فجوهر الأزمة برمتها، وفق ما يعتقد النظام في طهران، أن الولايات المتحدة لن ترضى بأقل من إسقاط هذا النظام، أو إخضاعه لهيمنتها، ثمناً لـ«التحرر والاستقلال». ليس تفصيلاً أن يمتلك نظام إيران سلاح دمار شامل ويرسي معادلات إقليمية ودولية أصعب من الحالية، لكن قبل النووي وبعده سيبقى مطلب الولايات المتحدة إسقاط النظام. وهو ما يجعل طهران تتمسك بموقع النووي في معادلة حماية النظام، كحصن متقدّم يُشغل العدو عن الأهداف الأخطر.
الاتفاق النووي اكتفى بالطلب من إيران، من دون إلزامها، عدم تطوير صواريخ تحمل رؤوساً نووية


منذ غزو العراق الذي طرق أبواب طهران، انصبّ جهد الإيرانيين على سدّ أي ثغرة تسمح بتهديد وجود النظام، وعماد ذلك: ورقة النووي، النفوذ الإقليمي، والقدرات العسكرية المحلية. يحاجج الإيرانيون بأن نفوذهم الإقليمي هو الضامن لأن لا تتكرر حرب كالتي وقعت مع العراق، وإن بدأ أي هجوم عسكري فإن الصواريخ ضمانة بأن لا ينتصر مشعلوها. «هم سيقولون نحن نريد هذا الأمر، ونحن سنجيب بالرفض وينتهي الموضوع»، هذا ما قاله خامنئي قبل مدة، قاطعاً الطريق على جدوى التفاوض على القدرات الدفاعية. يعي الإيرانيون حجم التحدي وجدية الولايات المتحدة في حملتها نتاج استشعارهم أن الهدف في مكان آخر غير النووي، وأن التخلي عن النفوذ الإقليمي والصواريخ البالستية يعني تعبيد الطريق بأيدٍ إيرانية نحو مشروع إسقاط النظام، بعد أن منح الاتفاق النووي كل ما يمكن لضمان سلمية المشروع النووي، في حين لم يضمن تخلي بلدان أخرى عن برامجها المماثلة عدم إسقاطها بالقوة.
لذلك، هم لا يخفون استراتيجيتهم الجديدة التي دُشّنت في ذكرى مرور عام على انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي وبالتزامن مع إلغاء الإعفاءات من العقوبات على تصدير النفط. السياسة الإيرانية الجديدة تعمل على تفعيل مثلث القوة المذكور: النووي، النفوذ الإقليمي، والقوة العسكرية. هدف صاحب القرار في طهران من استراتيجية تفعيل أوراق القوة هو منع الحرب، وكذلك منع واشنطن من المراهنة على تضخيم أهدافها حين تشعر أن ضغوطها بلا مقابل، فتطلب التفاوض بصيغة الرضوخ. وما يجعل الأزمة في غاية التعقيد، أن مثلث القوة (النووي، والنفوذ الإقليمي والبرنامج الصاروخي) الذي تعدّه طهران حصانة لعدم إسقاط نظامها هو تماماً الملفات الثلاثة التي يريد ترامب التفاوض عليها. وطهران لم تقبل أساساً بالذهاب إلى مفاوضات الاتفاق النووي إلا بعد أن قدّم لها أوباما اعترافاً وضماناً بحقها في تخصيب اليورانيوم (وهو جوهر التكنولوجيا النووية)، فضلاً عن عدم إسقاط النظام، وكذلك تحييد الملفين الآخرين، أي الصواريخ والنفوذ الإقليمي.


ولأن دونالد ترامب يتلمّس ماهية المخاوف الإيرانية، التي سبق أن عبّر عنها خامنئي بالجزم بأن هدف واشنطن هو إسقاط النظام، فالرئيس الأميركي يكرر دائماً أنه لا يريد إسقاط النظام بل تعديل سلوكه فقط. لكن حين يكون البرنامج الصاروخي في العقل الإيراني صلب معادلة حماية النظام، يعني ذلك أن التفاوض عليه شبه مستحيل. منذ عام 2009 شرعت إسرائيل في إثارة المخاوف لدى الغرب من هذا البرنامج، ومن أن دخول طهران مجال الصواريخ الحاملة للأقمار الصناعية (كصاروخ «سفير») يعني تهديداً مستقبلياً بإمكانية إنتاج أجيال صواريخ عابرة للقارات تصيب مدناً أوروبية ويصبح خطرها فتاكاً إن حُمّلت رؤوساً نووية. في الاتفاق النووي، بقي هذا الملف عالقاً، إلى درجة أن قرار مجلس الأمن المتعلق بالاتفاق اكتفى بالطلب من إيران، من دون إلزامها، عدم القيام بنشاطات من أجل تطوير صواريخ يمكن تزويدها برؤوس نووية. وبالعودة إلى عام 2015، عام إقرار الاتفاق، تعمّدت طهران أن تجري إحدى أهم تجاربها الصاروخية، في يوم مصادقة البرلمان الإيراني على بنود الاتفاق النووي، وهو صاروخ «عماد» البعيد المدى والكامل التوجيه، الذي وُصف حينها بأنه نقلة نوعية في البرنامج الصاروخي الإيراني. وتلك كانت رسالة لا لبس فيها بتمسّك طهران بعدم التفاوض على صواريخها. تجربة حرب السنوات الثماني، وقبلها وبعدها تجربة الحصار الأميركي، كان لهما الأثر البالغ في تشكيل الوعي العسكري الإيراني. في ملف القوة البحرية استفاد الإيرانيون من تجربة تدمير الأميركيين أسطولهم البحري، فركزوا على «الحرب غير المتكافئة» عبر صناعة الزوارق الصغيرة والطوربيدات السريعة والألغام البحرية. كذلك الحال في ملف الصواريخ، فهو الورقة الوحيدة القادرة على مجابهة حال عدم التكافؤ مع التفوق الجوي للعدو، وصناعتها محلياً فرضتها الصعوبة التي واجهتها طهران في شراء الصواريخ إبان الحرب مع العراق.
لكن ستبقى للأطراف الآخرين، لا سيما الأوروبيين والأميركيين، أسباب لمراقبة هذا البرنامج والتخوف منه، أهمها الشق المتعلق بالصواريخ القابلة لحمل رؤوس نووية وأجيال مفترضة من الصواريخ العابرة للقارات التي تبدأ من مدى 4 آلاف كلم، وهو ما لا تحتاج إليه طهران في استراتيجيتها الدفاعية، وهي التي تؤكد باستمرار أن برنامجها دفاعي، كما أنه لا يغيّر شيئاً في تهديد إسرائيل والقواعد الأميركية في المنطقة. فهل يفعلها الإيرانيون ويفاوضون على طريقة «فرهاد نفيسي» في «هوملاند»، ويبيعون ترامب صفقة رمزية ينشدها؟ حتى الآن الجواب الإيراني هو النفي.