لم يستطع أنسي الحج إلا أن يفرض عنفه اللامتناهي على اللغة والناس. أنجاه تشفير العنف نفسه، من العنف الممارس على الآخرين. لا معادلات رياضية في ذلك. إجراء سلمي أمام القصيدة والآخرين لأن الشاعر، السامع أصوات الشعر المبهمة في أذنيه، أدرك أنّ الطرق المضمونة في الخروج من إبهام الأصوات الشعرية إلى القصيدة، لا تحتاج إلى بناء منطقة حرة ولا إلى سلطة تنتصر بالطريق إلى فرض إرادتها.
أدرك أن طريقه المضمون إلى ذلك، بتجسيد قوانين الفيزياء، بالدفاع عن النفس، لأن الكيمياء، أو قوانين الإختلاط، يستعملها البشر العاديون، بيسر لا يحتاج إلى رقابة، سواء في الحياة أو في كتابة القصيدة. لم ينضوِ الرجل في شبكة، من جراء ذلك. وجد أن الضلوع في الكون أسهل بكثير من محاولات تكسير الشيفرات السائدة. هذا مظهره الأساسي، هذا اعتراضه على من يسيطر على الشبكات الإفتراضية، المصنوعة بالترابط السلفي بين الناس والشعراء. ما اختار الأسهل. اختار الشجاعة والفطنة، لا المقاومة أو التضامن. مقاومة الأشياء والتضامن مع الآخرين. امكانياته موارده، من دون أعذار تتنصل من كل مطلب بالكلام، لا بتجفيف القنوات القديمة بملئها بالماء الجديد. لم يرغب أنسي الحاج بترميم التاريخ، لأنه أراد كتابته. كتب تاريخه بالخوف الدائم على نفسه وعلى شعره. كلما قرأ ديواناً سابقاً على خلفية صدور ديوان جديد، قرأ القديم بزمنه الجديد، مذعوراً من الهتافات والنداءات القديمة. مضى بعيداً، لأنه لم يمضِ باتجاه واحد. قرّاء دواوينه القديمة، لن يصعب عليهم إقتفاء الألحان الجنائزية الشرسة في القصائد. كلما كتب، كشف قوانين الشعر في الديوان، قوانين العالم المثالي، ما عاش الحاج على أنقاضه، حين وجده في إتمام القصيدة العربية على كمالاته. هكذا، بقي يبحث عن استقلاله الدائم. استقلال حقيقي. وإذ تعب، كتب خواتمه. الأخيرة لا يعوّل عليها وحدها في قراءة تجربة الحاج الأخيرة، بنقاءات اللغة فيها، لأنها كونفوشوسية، لا اصطدامات بروق فيها. ذلك أنّها خطت مساراً آخر في لجان الشعر. لغة فتل لا متناه، ضد لوالب اللغة في «لن» و«الرسولة» و«ماذا فعلت». غير أن التنقيب عن الكنوز القديمة في الصناديق القديمة، لا يفضي إلا إلى نعف الغبار عن الصناديق ونعف اللغة بعقدها السمعية والحفرية، على رسالات بدت بعيدة وغير صالحة للأيام المطلبية. تتفارز الأصوات على بعد سنوات من سباحة الأصوات في فضاءاتها الجديدة. شاهد الحاج ذلك في أحد أحلامه، بذلك طارد نفسه في اللغة وطارد اللغة في النفس، حتى أُنهك الإثنان. قصيدة الصباح البعيد، قصيدة المساء الراهن. لم يختل توازن الشاعر في منحه نفسه نذائر الاكتشاف عبر ملايين العمليات اليومية، البسيطة، الأشبه ببساطة الأيام. منحه ذلك سلطةً على سلطة. لن يحلم بذلك كثيرون، لأنّ كثيرين يفوتون المعلومات الأصيلة، وهم يتصفحون إنتاجاتهم بغامر الرضى والمودة، بالتخلي عن عمليات التنقيب. شعره من عالمه الحقيقي لا من تسهيلات التجارب السابقة. تسهيلات التخزين. أقام الحاج على مفهوم اللاتوازن، على مفاهيم الإختلال، ضد تطبيق المعلومات والأفكار والمعاهدات الشعرية. لم يرابط على شاطىء شعري ولا على كتف العالم الحقيقي، حيث بنى عالمه الخاص، الأكثراً تعقيداً وتطوراً، ضد تقفي الآثار من أجل تنمية الثروات المادية والروحية. نشوء دائم. ميزة لم يتمتع بها الآخرون القادرون على التأثير في العمليات الحياتية. لبّ الموضوع. لم يبقَ سري الحضور في طوافه بين علم الكلام عند المسلمين وعلم اللاهوت عند المسيحيين.
الأكيد أنّ أنسي الحاج ميّز تماماً بين الإيمان والمنظومة الدينية في الحياة والشعر. مؤمن لا جيزويتي. بين الإثنين بونات واسعة. وجد في الأديان تعبيرات ثقافية عن نهود الإنسان إلى المطلق. وجد وحدتها الجوهرية فيها. انتبه كثيراً إلى أنّ وحدة الأديان لا تستقيم خارج مفهوم تنازل الأديان عن مكون رئيسي فيها، هو ادعاء امتلاك الحقيقة. لاقى ذلك بأريحية الشبعان من الحياة والشعر. كتب حقيقته بالشعر، بدون ادعاء امتلاك الحقيقة في كتابة الشعر. كل ما حقّقه، تحقيق النسبية اللامتناهية، ما بدا للآخرين أنه إخضاع الأشياء إلى المزاج. لا صحة بذلك، لأن أكثر الخائفين من مزاج انسي الحاج هو أنسي الحاج، معبراً عن هذا الخوف بإعلان نفي الآخر منذ اللحظة الأولى، حتى لا يتكلف الخيبات المتتاليات من حروب أنسي الحاج على نفسه، معكوسة على كل ما هو من صنع الناس الآخرين. لا حدود لمزاج أنسي الحاج، لا حدود لضجره. لا يعبر صوته إلا عن ذلك. جرف الصوت الصوت إلى دائم الطفولة، بدون أن يسمح بأن يجرفه التاريخ. ترك صوته في الظن لا في التحقق. لم يتصف صوته بالتعالي، في حين بدا حضوره مطلق الحكمة وجسده مطلق القدرة. بقي الأخير على قوته الفائقة من ضجر أنسي الحاج من الوافد الجديد إلى جسده. كيان شعري، بروح حرة وجسد لم يعبّر البتة إلا عما يعتقد. شيء غير قابل للتوفيق باستمرار، إلا مع أنسي الحاج. قوة غير مذكورة في الكتابة عن الشعر، في حين استعملها الحاج في شعره كثيراً. قوة الجسد تقرير الله في شعر أنسي الحاج. حقيقة كيانية مستمرة. ما يشبه تحرير الروح من الحرف وتحرير الحرف من طرقاته المسلم بها. بواحدة من آخر لياليه، لم تبن مرافق الإختلاف بين الجسد والمرض. إذ فوجئنا بحضوره الأصولي في نزلة «أوتيل ديو». لم يسمح للمرض أن يمارس إرهابه عليه. انتصرت قوته على غريزة المرض. لا مرض في عينيه، لا مشكلة في قدراته. لم نبحث عنه في وقفته، حتى لا نجدها. لن نجدها، ما دام صاحبه، لا يجد سداد حياته إلا بالعيش على فوهات القصص الدائمة. ساير وسار. قصد محلاً قريباً من «الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا». هناك شرب عصير الرمان. داوم على ذلك في أشهره الأخيرة. وبدون أن يفكر مرتين، طار بدون عجز، إلا عجز المشاهد حوله، رقيقاً مثل شعرة، إلى مطعم. أكل ومضى، بدون أن يغوص في رعب الحالة، تاركاً خلفه علامات لا تعوض. لا انطباعات خاطئة معه. لأنه ليس فرداً. أنسي عدد، لا يكرر نفسه بالعدد. لا ينكر الرجل رنين الآخرين، يكتمه ولا ينكره، بقوة غيرة الآخر. لا يبحث عن ذلك، لأن سلوكه لا يجيء من النفس، بل من الآخر. وحيد نفسه لا يرغب بالآخر. وحيدٌ بقي وحيداً. هكذا عكس ضوءه على مرآة الكون بطنين مأنوس. ولكي يغذي شمسه، بدون استنفاد قوى، هب دائماً بالحفيف العصبي للآخرين. تحول إلى جذع، لا غصن، في تجربة الأخوين رحباني وفي صور فيروز الجانبية، وهي تتوارى في الجزء المظلم في العالم. لم يسترخِ في الترجمات المسرحية، أوَدَ خصور النصوص الأصلية، بمزاجه المتبختر صوب النجوم. بابتسامة تدوخ، عبر الفضاءات الشاسعة، لا في الشعر وحده، في المسرح كما في الشعر. روى أنطوان كرباج أنّ الحاج أخرجه من ظلال التمثيل إلى الأدراج، بعدما كتب عن أدائه في « الملك يموت». لا تزال نساء كثيرات يئنّن من بركاته. لم يشر إلى مؤامرة في حياته وهو يعبر من مغيب إلى مغيب.
بمداه الخصوصي، جاء إلى معرض الكتاب العربي. وجدني معلقاً على أكتاف الرواد كي لا يراني. لوّح، وإذ فعل، تولد تناغم في انحائه، لا أزال في ريحه الدائرة على عجلات العذوبة. رمزه الجديد. كماء سال في اللقاء الأخير وهو يقترب باليد من اليد وبطرف الخد من الخد الآخر. كماء سال في الموت. لن يطوى رأسه الماكر في عشب أو تراب، ما دام النور الأعظم، لا يزال يطوف بأزرقه الفاتح في الملحق/ الأساس. وحيداً عاش، وحيداً مضى، على ظن الآخرين بأنهم مواقيته وخطراته وخطواته وفروضه ووصفاته وجمله الأخيرة المقتضبة، غاية الإقتضاب. لا يعرف أحد أنسي الحاج. مات في نومه. أكل حبته الأخيرة ومات. خفض من إطالة بقائه باتلاف صحوه. أزاح عبء الموت بالموت. لا يزال قوياً، لا يزال ماهراً بامساكه بحياته حتى اللحظات الأخيرة. مات انسي في حلمه. لا يزال حياً إذن. لأن الموت بالحلم، ليس موتاً. الموت بالحلم خشونة مؤقتة، لا تنتهي إلا بالبكاء.
* كاتب ومسرحي لبناني