على رغم دخول الدعوة الأميركية لإيران إلى الجلوس على طاولة المفاوضات عامها الثاني، لا تزال الأخيرة متشبّثة بقرارها القاضي بعدم الجلوس مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى تلك المائدة، قبل أن تُلبّي الإدارة الأميركية مطالب طهران المُختصرة بعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، مع رفع كامل للعقوبات الأميركية المفروضة خلال العام المنصرم.عدم تحقق هذه الشروط الإيرانية، قبل جلوس الطرفين إلى الطاولة، سيجعل منها «طاولةً للاستسلام»، بحسب تعبير الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي أكد أخيراً أن «بلاده لن تجلس إلى طاولة كهذه بذريعة التفاوض لحل المشاكل».
الموقف الإيراني لم يكتف بعرض شروطه للتفاوض فحسب، بل قابل عقوبات واشنطن، المترافقة مع دعواتها إلى التفاوض، بتحلّل تدريجي من الالتزامات المطلوبة منه في الاتفاق النووي، مكرّراً بذلك مسار التحدي الذي دأبت طهران على الولوج فيه بعد كل محطة يتراجع فيها الغرب عن الوفاء بتعهّداته. هذا ما حدث في الفترة التي سبقت الاتفاق النووي، عندما تخلّفت الترويكا الأوروبية (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) عن تقديم حزمة المحفزات النووية لطهران، بموجب اتفاقية باريس التي أوقفت على إثرها إيران محاولاتها تخصيب اليورانيوم، وهو ما دفع بالإيرانيين حينها إلى فضّ الأختام عن معدّاتهم النووية في أصفهان، ليكشفوا بعد أقل من عام عن نجاحهم في تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.5%، معلنين بذلك الانضمام إلى النادي النووي، والبلدان التي تمتلك التكنولوجيا النووية.
خروج طهران التدريجي من الاتفاق النووي سيخلق مساحة تُتيح مفاوضات جماعية


مسار المواجهة الذي كانت تقابل به إيران آنذاك حزم العقوبات المفروضة عليها من أميركا وأوروبا تارة، ومن مجلس الأمن الدولي تارة أخرى، لم يتوقف عند هذا الحد. وقتها، أفصحت طهران عن تمكنها من تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وهذا ما عُدّ في حينه خطوة كبيرة، لأنه سيفتح المجال بسهولة أمام الجمهورية الإسلامية لكي تُخصّب اليورانيوم بدرجة الـ90% اللازمة لصناعة السلاح النووي. تطور نووي انعكس بدوره على المفاوضات الجارية بين إيران ومجموعة «5+1»؛ إذ استطاعت طهران من خلاله تحويل النقاش من أحقية إيران في تخصيب اليورانيوم إلى التفاوض على إيقاف التخصيب بدرجة 20%، والذي تحقق عملياً في الاتفاق النووي عندما تنازلت طهران عن هذه النسبة من التخصيب، من دون أن تتنازل عن التخصيب بمستوى 3.5%، في مقابل الحصول على الامتياز القاضي برفع العقوبات الأحادية والدولية عنها.

خطوات طهران ستسهم في جعل البرنامج النووي محوراً للنقاش الدولي بدلاً من البرنامج الصاروخي (أ ف ب )

لكن عودة العقوبات الأميركية بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق، إلى جانب عجز الأطراف الدوليين الآخرين ــــ جراء تلك العقوبات ــــ عن الوفاء بالتزاماتهم، جعلا طهران هي الأخرى تتحلّل تدريجياً من التزاماتها النووية، لتختار طريق التصعيد بعد مسار طويل من «الصبر الاستراتيجي»، في خطوة عُدّت في نظر مراقبين محاولة إيرانية لتعزيز الأوراق التفاوضية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات. فالذهاب إلى التفاوض مع مسؤولي هذه الإدارة في ظلّ بقاء الالتزامات النووية الإيرانية على حالها، سيفتح المجال أمام واشنطن لمقايضة طهران على المكاسب التي حصلت عليها الأخيرة في الاتفاق النووي، كما لن يضمن لإيران بقاء المباحثات محصورة في الإطار النووي فقط.
الموقف الإيراني يكرّر مسار التحدي في الفترة التي سبقت الاتفاق


وعليه، فإن خطوات طهران على الصعيد النووي ستسهم في جعل البرنامج النووي الإيراني محوراً للنقاش الدولي بدلاً من البرنامج الصاروخي. كذلك، فإن خروجها التدريجي من الاتفاق سيخلق مساحة تُتيح لها الجلوس إلى طاولة مفاوضات جماعية يكون هامش المناورة الإيراني فيها كبيراً، مقارنةً بهامش المناورة المُتاح في حالة المفاوضات الثنائية مع واشنطن، خصوصاً أن مائدة مفاوضات جماعية ستضمّ على الأقلّ طرفين دوليين (الصين وروسيا) يُبديان تفهّماً أكبر لمصالح إيران، عدا عن كونهما يواجهان ضغطاً أميركياً مشابهاً للضغط المُمارس عليها.
في هذا السياق، يُوضح مدير «برنامج الدراسات العالمية» في مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية الإيرانية، دياكو حسيني، المخاطر المترتبة على القبول بالتفاوض في ظلّ العقوبات الأميركية، فيقول إن «الجلوس للتفاوض مع الإدارة الأميركية وسط إصرارها على الإبقاء على العقوبات، سيضفي صفة رسمية على انهيار الاتفاق النووي». ويستطرد في مقاله في صحيفة «إيران» الحكومية، متوقعاً أن «يُصبح في حينها إلغاء العقوبات موضوعاً للتفاوض، في مقابل أخذ امتيازات أكثر من إيران»، واتفاق كهذا لو تم، برأي حسيني، فسيكون «أكثر اتفاق كارثي ممكن في تاريخ البلاد أخيراً».