بداية العام الحالي، سأل الرئيس الأميركي وزير دفاعه المستقيل، الجنرال جيمس ماتيس، خلال اجتماع وزاري: «لماذا لم تربح أميركا في أفغانستان؟». شارحاً المشكلة باقتضاب، قال ترامب: «يمكنك التحدّث عن جنرالاتنا. أعطيت جنرالاتنا كل الأموال التي يريدونها. لم يؤدّوا عملاً رائعاً في أفغانستان. لقد قاتلوا هناك منذ 19 عاماً... أريد نتائج». لعامين ونصف عام، سعى دونالد ترامب إلى وضع استراتيجية تنهي فاتحة حروب جورج دبليو بوش على «الإرهاب»، والتورّط الأميركي المُكلف في هذا البلد. استراتيجيةٌ انتهى أحد فصولها، أخيراً، إلى عقد مفاوضات أميركية مباشرة مع حركة «طالبان»، برعاية قطرية ودفع باكستاني، تهيّئ الأرضية لانسحاب أميركي جزئي من هذا البلد، بجدول زمني يتلاءم واعتبارات حملة ترامب الانتخابية.شكلت أفغانستان، على مدى عقدين، معضلة في السياسة الخارجية الأميركية، وهاجساً سَكن رئيسين على التوالي: باراك أوباما (2008 - 2016) الذي جاء بوعود بإنهاء الحرب، لكنه خرج من دون أن يفلح في تحقيق أي خرق؛ ودونالد ترامب الذي لم تشكّل الحرب الأفغانية بالنسبة إليه هاجساً، إلا ربطاً بحملتَيه الانتخابيتين، الأولى في 2016 والثانية التي انطلقت في حزيران/ يونيو الماضي، حتى بات يمكن القول إن تحديد أولويات السياسة الخارجية لهذه الإدارة صار رهناً بوعود تُساق لاعتبارات انتخابية، رُسم على أساسها جدول زمني للانسحاب، أعلن عنه هذه المرّة وزير الخارجية، مايك بومبيو. وفي حين أن جدول الانسحاب الجزئي يبقى رهن جملة من المتغيرات، فقد ربطه بومبيو بموعد رئاسيات 2020 في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وقال أمام «نادي واشنطن الاقتصادي»، لدى سؤاله عمّا إذا كان يتوقع خفض القوات الأميركية في أفغانستان قبل الانتخابات المقبلة: «هذا هو التوجيه الذي تلقيته من رئيس الولايات المتحدة... لقد كان واضحاً: ضع حداً للحروب التي لا تنتهي... قلّل... قلّص. لن يكون الأمر قاصراً علينا... نأمل أن تقلّ الحاجة للقوات المقاتلة في المنطقة بشكل عام». التوجه لخفض عديد القوات الأميركية يمكن، بحسب مراقبين، أن يضعف موقف واشنطن في التفاوض مع «طالبان»، ويزيد من فرص مناورة الحركة، طالما أنها باتت متيقّنة من أن ترامب مستعد لإبرام أيّ صفقة تتيح انسحاباً، ولو جزئياً، لقواته قبل توجّه الناخبين الأميركيين إلى صناديق الاقتراع.
استكان دونالد ترامب إلى «حدسه» الأول بالانسحاب من الحرب الأميركية الأطول التي افتتحت القرن الحالي. بعد عامين مِن إعلان استراتيجيته لجنوب آسيا (آب/ أغسطس 2017)، التي شكّل الانتشار المفتوح الأمد للقوات الأميركية في أفغانستان حجرها الأساس، أملاً باستفزاز «طالبان»، وبالتالي دفعها إلى التفاوض مع الحكومة الأفغانية، كانت النتيجة أن لا استراتيجية واضحة لهذه الإدارة، أو أي إدارة سبقتها، في التعامل مع أحد أكثر ملفات السياسة الخارجية حساسية وتعقيداً. منذ انتهاء حرب فييتنام، حدّدت استراتيجية الأمن القومي الأميركية كل طريق إلى النصر، بصفته «عملية تقنية تقتضي إزالة العناصر الفاعلة العنيفة» من مجال المسؤولية التكتيكية. في الحالة الأفغانية، فإن «طالبان» تمثّل هذه العناصر.
هل ستقبل «طالبان» بفوز جزئي من خلال المشاركة في حكومة لا تسيطر عليها بالكامل؟


لكن منذ عام 2008، حين قال رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، مايك مولن، إنه «لا يمكننا أن نمضي في طريقنا إلى النصر» في أفغانستان، لم تكن «الرؤية» الأميركية تدور في فلك طمس «طالبان»، بل دفع الحركة في اتجاه مفاوضات سلام. مفاوضاتٌ فَشِل أوباما في إدارتها، لكنه «نجح» في تعزيز الوجود الأميركي ليبلغ ذروته في عام 2010 (100 ألف جندي أميركي و40 ألفاً يعملون بإمرة «الناتو»)، قبل أن يتقلّص تدريجياً ليبلغ عشرة آلاف في 2016 قبل مغادرة الرئيس السابق البيت الأبيض، أضيف إليهم أربعة آلاف في عهد الإدارة الحالية، ليستقرّ الرقم عند 14 ألف جندي. حدث ذلك بعدما قرّر ترامب السير بنصيحة وزير دفاعه السابق، جيمس ماتيس، بإرسال مزيد من الجنود والعتاد إلى هذا البلد، أملاً بتحقيق «نصرٍ». لكن الفشل في تحقيق «السلام من خلال النصر»، أو بمعنى آخر إرهاق حركة «طالبان»، دفعه إلى طلب إجراء مراجعة شاملة لهذه الاستراتيجية، شكّل الانسحاب بندها الرئيسي، مع ترك الباب موارباً أمام حوارٍ مع الحركة الأفغانية. حوارٌ سلك طريقه اعتباراً من العام الماضي، بشروط الحركة: مفاوضات مباشرة مع الأميركيين على جدول زمني لانسحابهم، في مقابل «ضمانات» من «طالبان» بعدم تحويل البلاد إلى ملاذ لـ«الإرهابيين». وعليه، تم تعيين السفير السابق لدى أفغانستان، زلماي خليل زاد، مبعوثاً أميركياً للسلام في أيلول/ سبتمبر 2018. بيدَ أن العقدة الأكبر، بالنسبة إلى الأميركيين وحلفائهم الأفغانيين، هي في النتائج وليس في التمنّيات. نتائج ترجّح، بعد مضيّ 19 عاماً على الحرب، نصراً للطرف الأقوى في هذه المفاوضات: أي «طالبان»، التي تضع شرط انسحاب القوات الأجنبية بنداً أول للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حكومة أشرف غني، الساعي إلى الفوز بولاية جديدة في انتخابات أيلول/ سبتمبر المرتقبة، في بلدٍ متعدد الإثنيات. تضاف إلى ما سلف العقدة/ المفتاح، والمتمثلة بباكستان، التي تقول إنها «ليست ضامناً، لكنها تعمل على تسهيل عملية السلام الأفغانية»، عبر محاولة إقناع حليفتها، «طالبان»، بالحوار مع الحكومة.
في خطابه عن حال الاتحاد (شباط/ فبراير 2019)، والذي تلا قرار البيت الأبيض الانسحاب جزئياً من أفغانستان، قال ترامب إن «الدول العظمى لا تخوض حروباً بلا نهاية». شكّل خطابه هذا إشارة واضحة إلى أن إدارته قلّصت أهدافها بالنسبة إلى أفغانستان، وأن الولايات المتحدة بدأت في التفكير بجدية في استراتيجيات الخروج المحتملة، وتتجه بخطى ثابتة نحو ترك هذا المستنقع. بيد أن القلق الأميركي يتمثل في عودة أفغانستان إلى الوضع القائم قبل حرب 2001: هل ستقبل الحركة ورعاتها الباكستانيون بـ«فوز جزئي» من خلال المشاركة في حكومة لا تسيطر عليها بالكامل، أم أنها ستنتظر جلاء الجنود، لتحارب هؤلاء الذين قاتلوا إلى جانب القوات الأميركية، وبذلك، تعود منتصرة إلى السلطة. هذا السيناريو، غير المستبعد، إن حصل، يعني إطاحة حكومة كابول المدعومة أميركياً، ويعني أيضاً أن ترامب كان على حقّ حين سأل عن جدوى هذه الحرب، مستطرداً: «ما الذي حصلنا عليه مقابل كل تلك الأموال؟». إلى جانب المساهمة في تدمير البلد، صرفت واشنطن مئات مليارات الدولارات لتمويل حربها، و2400 جندي قتيل وآلاف الجرحى.
الإعلان عن الانسحاب يشبه استراتيجيات تبنّتها إدارتا جورج دبليو بوش وباراك أوباما، اللتان بدأتا الحرب وتعثّرتا فيها. استراتيجيةٌ تضمن بقاء «طالبان» في الأراضي التي تسيطر عليها، وترك أمر حماية العاصمة وبعض المدن الرئيسة مثل قندهار وقندوز ومزار شريف وجلال آباد، للحكومة في كابول. وبينما يعيش ربع الأفغانيين في المناطق الحضرية، وفقاً لتقديرات وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، وتُعدّ كابول أكبر مدنهم حيث يقطنها أربعة ملايين نسمة، تعيش الغالبية الأفغانية في مناطق الريف الشاسعة، حيث التعاطف مع «طالبان» على أشدّه. ومن بين 407 مقاطعات في أفغانستان، فإن الحكومة إما تسيطر أو تؤثر في 229، بينما تسيطر «طالبان» على 59، وتعتبر المقاطعات الـ 119 الباقية متنازعاً عليها، وفقاً لمكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان.
ومع ذلك، فإن إعلان البيت الأبيض عن انسحاب جزئي، ووضع بومبيو جدولاً زمنياً لهذا الإجراء، يثيران أسئلة كثيرة. في مناقشة أجراها قبل بضعة أشهر «مركز لجنة المصلحة الوطنية»، قام خبراء في الصراع الأفغاني بتقييم مزايا وتبعات الانسحاب من أطول الحروب الأميركية. فاستقرار المنطقة ومستقبل المصالح الأميركية في جنوب آسيا يعتمدان في جزء كبير منهما على «خطة جيدة» لسحب القوات الأميركية من أفغانستان، لكن الوصول إلى تلك النقطة دونه تحديات كبيرة. عن ذلك، يقول مدير «مبادرة التهديدات العابرة للحدود الوطنية» في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، سيث جونز، إن من شأن انسحاب كبير للقوات من أفغانستان أن يتسبّب في عدم الاستقرار في البلاد، وربما يؤدي إلى حرب أهلية دموية. بدلاً من ذلك، يقترح الإبقاء على العمليات الخاصة للولايات المتحدة والوجود الاستخباري لمنع حركة «طالبان» من استعادة السيطرة على البلاد، وفي الوقت ذاته استكمال مفاوضات السلام. لكن إمكانية التوصل إلى تسوية سلام دونها تحديات، تشمل ما وصفه جونز بأنه «لعبة من مستويين»، حيث يتعين على كلّ من الحركة والحكومة الأفغانية الجلوس إلى طاولة واحدة مع الدول المجاورة التي تدعمهما. وفي إشارة إلى صعوبات إضافية تواجه التسوية في أفغانستان، ينبّه إلى أنه «من بين حوالى مئتي تمرُّد (منذ الحرب العالمية الثانية)، فإن ثلاثة أرباعها ينتهي في ساحة المعركة، وحوالى الربع ينتهي بما قد يسمى التعادل، ونسبة أقل تنتهي بتسوية سلام». من هنا، يُتوقّع أن يواجه الرئيس أشرف غني رداً من مجموعات إثنية مختلفة؛ منها الأوزبك والطاجيك والهزارة ومجتمع البشتون المناهض لـ«طالبان»، في حال عقد اتفاق سلام مع الحركة التي يهيمن عليها البشتون. بالنسبة إلى جونز، فإن انسحاب الولايات المتحدة سيؤدي حتماً إلى تعديل ميزان القوى في المنطقة، إذ يوضح أن تأثير الانسحاب العسكري الأميركي على معنويات الحكومة الأفغانية سيكون «من الصعب المبالغة في تقديره». ومن المؤكد أنه سيؤدي إلى رحيل القوات الأوروبية التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الولايات المتحدة لاحتياجاتها الأمنية واللوجستية. وتالياً، فإن من شأن الانسحاب أن «يغير ميزان القوى بشدة لمصلحة طالبان ومؤيديها الخارجيين»، وخصوصاً باكستان، مضافاً إليها الصين وإيران وروسيا، الحاضرين في هذا المشهد. فهل تنسحب واشنطن وتسلّم منطقة بأكملها لخصومها؟