لم يلقَ إعلان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، لنتائج «المعركة بين الحروب» التي تخوضها إسرائيل ضد حزب الله منذ أكثر من ست سنوات، الاهتمام والتركيز الذي تستحقه. والسبب، كما يبدو، يعود إلى تصدّر الحديث عن إرجاع الصهاينة إلى العصر الحجري، وعن خريطة فلسطين التي عرضها واحتلّت الحيز الاوسع من النقاش في لبنان وفلسطين والمنطقة.مع أنّ نصرالله سبق أن تناول نتائج هذه الاعتداءات في مراحل سابقة، إلا أن ما أدلى به في سياق مقابلته مع قناة «المنار» يوم 12 تموز 2019، وبالمضمون الذي ورد فيه، انطوى على تحديد دقيق لنتائج هذه المعركة: «إذا أجرينا محصّلة لكل القصف الإسرائيلي (على قوافل مفترضة للمقاومة في سوريا) الذي جرى منذ بدايته ونقول هذا القصف ما هي أهدافه؟ وماذا تحقق من هذه الأهداف؟ النتيجة لا شيء، لا شيء إن تحدثنا بالمنطق العسكري».
ما تقدم يشكل خلاصة إجمالية لنتائج معركة متواصلة كانت تجري بموازاة معارك أخرى بين الطرفين، ومتفاعل بعضها مع بعض. فإلى جانب مواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية، والحرب الأمنية، وأنواع الحروب الأخرى، كانت هناك معركة قاسية ضد مساعي حزب الله لتطوير جاهزيته العسكرية والصاروخية، وُصفَت في استراتيجية جيش العدو المحدثة عام 2018، بالقول: «إن نموذج عمل «المعركة بين الحروب» نموذج هجومي ومبادر، وهو يجري تحت عتبة الحرب».
كان لهذه المعركة نقطة انطلاق ومبادئ وأهداف وسياسات ورهانات ومخاطر، وأيضاً نتائج. وبالتالي كان فيها منتصر ومهزوم. أو بعبارة أخرى، فاشل وناجح. نقطة البداية لهذه المعركة كانت نهاية كانون الثاني عام 2013 (موعد أول اعتداء إسرائيلي في سوريا) ثم استمرت مع توالي الشهور والسنوات، بوتيرة متفاوتة ومرتبطة بعوامل ميدانية وسياسية وردعية. لم يكن اختيار إسرائيل لهذه السياسة العملانية من بين بدائل أخرى، إلا نتيجة دراسة لتطورات بيئتها الإقليمية، وتقدير للخيارات العملانية التي راوحت بين البقاء مكتوفة الأيدي بانتظار سقوط النظام في سوريا (كما كانوا يراهنون في حينه)، وصولاً إلى خيار التدخل العسكري الواسع في الحرب الدائرة في الساحة السورية. وتؤكد الوقائع والتقارير من الجهات ذات الصلة مباشرة بهذه المعركة أن تبني هذه الاستراتيجية انطلق من تقدير مفاده أن التطورات التي تشهدها الساحة السورية تمنح إسرائيل هامشاً واسعاً لاستخدام قوتها بنحو مدروس ومضبوط، بهدف منع تزود حزب الله بأسلحة كاسرة للتوازن. والمبدأ الأساسي الذي شكّل ضابطة أساسية لهذا الخيار العملاني ألّا تؤدي إلى مواجهة واسعة النطاق لا ترغب فيها إسرائيل. وانطلق الرهان على نجاح تفادي هذا السيناريو من أنه ليس من مصلحة النظام السوري الذي يواجه التهديد التكفيري فتح جبهتين في آن واحد، ما دام منسوب هذه الضربات يمكن احتماله.
نصت استراتيجية جيش العدو (في الفقرة ب، من المادة 11 في الفصل الثاني: استخدام القوة في الجيش الإسرائيلي) على أهداف هذه المعركة (بين الحروب): «تقليص التهديدات القائمة والآخذة في التشكل. إبعاد الحرب القادمة، وخلق الظروف الأفضل للانتصار فيها. الحفاظ على الردع وتقويته. تعزيز قدرات إسرائيل عموماً والجيش الإسرائيلي خصوصاً. والحفاظ على حرية عمل الجيش الإسرائيلي وتقليص حرية العدو».
في المقابل، أجمل السيد نصرالله نتائج هذه المعركة بالقياس إلى أهدافها «وفق المنطق العسكري» بـ«لا شيء». بالتأكيد، إن الأمين العام لحزب الله هو الوحيد القادر على تقديم صورة دقيقة عن نتائج هذه المعركة، بما في ذلك إسرائيل، لأن جيش العدو قد يعلم وقد لا يعلم نتائج ما استهدفه، والأهم أنه بالتأكيد لا يعلم عما كان خارج «راداره الاستخباري» وما هو خارج متناول يده.
اعتراف العدو بتعاظم القدرة الصاروخية للمقاومة يعني فشل «المعركة بين الحروب»


مع ذلك، يمكن استيضاح النتيجة التي كشفها نصرالله، عبر مقارنة الأهداف التي نص عليها جيش العدو للمعركة بين الحروب في استراتيجيته المعلنة.
في ما يتعلق بالبند الأول، تقليص التهديدات. هل تراجع التهديد الذي تشكله صواريخ حزب الله بعد أكثر من ست سنوات على بدء هذه المعركة؟ النتيجة الإجمالية لهذا المسار تتضح عبر عدة قنوات، من ضمنها ما يقرّ به كبار المسؤولين الإسرائيليين بأن ترسانة حزب الله الصاروخية تتجاوز 150 ألف صاروخ، منها ما يطال كل فلسطين المحتلة، ويتمتع بقدرات تدميرية هائلة. وبحسب السيد نصرالله، هي قادرة على إدخال إسرائيل في العصر الحجري. والأبرز في هذه المرحلة أن حزب الله فاجأ العدو بنوعية جديدة من الصواريخ، تحولت إلى الهمّ الأول بالنسبة إليه، لكونها الأشد خطورة وفتكاً بالبنية الاستراتيجية لكيان العدو، وقادرة بحسب اعتراف نتنياهو على تغيير معادلة الصراع جذرياً.
البند الثاني، إبعاد الحرب القادمة. من الواضح أن العدو يقصد من هذا الهدف، أن يتمكن من تحقيق الأهداف عبر «المعركة بين الحروب» بما يغنيه لاحقاً عن الحرب لتحقيقها. لكن مشكلة تل أبيب أنّ هذه الأهداف لم تتحقق، ولم تعد تتحقق بالحرب أيضاً. ومن الواضح أيضاً أنه في ضوء تطور قدرات حزب الله كمّاً ونوعاً، لم تؤدّ المعركة بين الحروب إلى «إنتاج ظروف أفضل للانتصار فيها».
البند الثالث، المحافظة على الردع وتقويته. يلاحظ أن حزب الله نجح في أن يفرض على إسرائيل معادلة ردع حيَّدت لبنان عن هذه المعركة طوال السنوات الماضية، والتزمتها إسرائيل تماماً. بل نجح أيضاً في أن يفرض معادلة ردع حتى في سوريا التي تملك فيها إسرائيل قدراً من زمام المبادرة. تمثّل ذلك بفرض حزب الله على إسرائيل الحرص على تجنب سقوط شهداء منه، وإلا فإنها ستتلقى ردوداً عسكرية ملائمة. وهو أمر عاد وأكده السيد نصرالله: «الإسرائيلي يحفظه بصم، أنه إذا قتل الإسرائيلي أحداً من شباب حزب الله في سوريا فنحن سنردّ ونردّ بلبنان، وهذا ليس جديداً... الإسرائيلي يعرف. لذلك هو يحاذر حتى عندما يقصف بعض نقاط وسائل النقل هو يحاذر أن يقتل أخانا الذي يقود وسيلة النقل هذه، لأنه يعلم أنه سيحدث ردّ عليه». وللتذكير، لم تتبلور هذه المعادلة إلا بعدما لمس العدو جدية حزب الله، (الرد على اعتداء القنيطرة، وعلى اغتيال الشهيد سمير القنطار) التي عزّزها حزب الله بالرسائل الحازمة التي أطلقها السيد نصرالله. وفي سياق الردع أيضاً، يلاحظ أن ثقة محور المقاومة بقدرته الردعية تطورت إلى درجة أن الأمين العام لحزب الله وضع إسرائيل وواشنطن أمام معادلة «مستقبل إسرائيل» في مقابل عدوان أميركي إسرائيلي واسع.
البند الرابع، تعزيز قدرات إسرائيل وجيشها. يمكن القول إن تعزيز هذه القدرات له وجهان: الأول يتصل بدعم الولايات المتحدة، وهذا خارج متناول يد حزب الله. والوجه الآخر مرتبط بمدى تعزيز قدرات حزب الله. وفي هذا المجال يمكن إعادة استحضار المعطيات التي وردت أعلاه لتؤكد أن معادلة القوة بين حزب الله وإسرائيل في عام 2019، تفوق بأضعاف (لمصلحة حزب الله) معادلة القوة التي كانت قائمة بين الطرفين خلال حرب عام 2006. وهو مفهوم باتت معالمه وتجلياته أوضح في أكثر من مجال.
البند الخامس، الحفاظ على حرية عمل الجيش الإسرائيلي وتقليص حرية العدو. في ما يتعلق بحزب الله، من الواضح أنه نجح في ردع جيش العدو عن توسيع نطاق «المعركة بين الحروب» إلى لبنان (تقييد تام لحرية عمل جيش العدو عن المبادرة العملانية). في المقابل، نجح حزب الله في تقييد مبادرات جيش العدو في الساحة السورية (منع استهداف عناصر حزب الله) يشكل تجسيداً ملموساً لتقليص حرية عمل الجيش (تقييد نسبي لحرية جيش العدو). ومن المؤكد أن حزب الله نجح في استثمار هذا القيد لحماية عمليات النقل والتطوير في الحالات التي كان يتجنب العدو الاعتداء، تجنباً لرد حزب الله بفعل سقوط شهداء.
يبقى وجه آخر لامتلاك العدو زمام المبادرة في الساحة السورية تحديداً، ينطوي على بعد معنوي سلبي يخدش صورة معادلة الردع في الساحة السورية، كما يبدو في الظاهر، لكنه في الواقع كما أكد السيد نصر الله «عمل فوضوي عشوائي لن يؤدي إلى نتيجة». بمعنى أنه خدش معنوي في اعتداءات لم تؤدّ إلى نتائج جوهرية على مجمل قدرات حزب الله العسكرية.
في هذا المجال، يلاحظ أن السيد نصر الله كان دقيقاً جداً في اختيار عباراته في توصيف مجمل نتائج «المعركة بين الحروب» عندما قيّدها بعبارة «وفق المنطق العسكري، لا شيء». ويعني كلام الأمين العام لحزب الله أنه لا ينفي أن جيش العدو أصاب صاروخاً هنا أو هناك... أو منشأة ما تابعة للمقاومة داخل الأراضي السورية. وإنما لم تنجح هذه الاعتداءات في التأثير بتراكم قدرات حزب الله العسكرية وتطورها، ولو بصيغة الحد الأدنى. «نقول هذا القصف ما هي أهدافه؟ وماذا تحقق من هذه الأهداف؟» (السيد نصر الله).
لم يحقق حزب الله هذا النجاح المذهل في هذه المعركة لولا أنه واجه خطة العدو باستراتيجية مضادة، يمكن تلمس معالمها وفق الآتي: الردع، سلامة الأولويات، الحصانة (الاستخبارية)، السرية والتضليل، والإبداع. ولكل من هذه العناوين مصاديقها وتفاصيلها التي كانت وما زالت مطوية تحت غطاء كثيف من السرية. ويمكن التقدير أن هذه السرية المطلوبة أسهمت أيضاً في تعظيم الخدش المعنوي لدى بعض الرأي العام، انطلاقاً من أن الانسان عدوّ ما يجهل، لكن شروط الانتصار في هذا النوع من المعارك تطلب أن يكون المنسوب السري فيها أعلى بكثير من العلني، وهو ما كان. مع ذلك، إن سرية الجهود الوقائية والاستباقية التي انتهجها حزب الله، لم تشكل مانعاً بعد مضيّ ست سنوات على هذه المعركة، من تلمّس مفاعيل هذا الانتصار الكبير في معركة كان لكل من الطرفين فيها طوال السنوات التي مضت خططه وتكتيكاته ورسائله ومعادلاته وتقديراته. المعطى الأكثر حضوراً في دلالات هذه المفاعيل تمثّل بتطور معادلات القوة والردع، لحزب الله ومحور المقاومة إلى المستوى الذي بات فيها قادراً على تهديد الصهاينة بإعادتهم إلى العصر الحجري.