لندن | أصيبت الأسواق المالية بالهلع، الأسبوع الماضي، بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية التمهيدية في الأرجنتين. فقد الـ«بيسو» ــ العملة الوطنية ــ من فوره أكثر من 17% من قيمته، بينما هبطت بورصة بوينس آيرس عمّا يزيد على 31%، وتراجعت السندات الحكومية بـ31%. جاء كل ذلك نتيجة إخفاق الرئيس الأرجنتيني الحالي ماوريسيو ماكري ــ المقرّب من واشنطن ــ في الحصول على ما قد يكون كافياً من مجموع أصوات الناخبين للفوز بدورة رئاسية ثانية، فيما لن تكفيه ثقة 32% من الناخبين التي حصل عليها، للفوز في المرحلة النهائية من الانتخابات الرئاسية المقرّرة في 10 و11 تشرين الأول / أكتوبر أول المقبل.ويبدو أن الصدمة الاقتصادية كان لها الدور الأكبر في الوصول إلى هذه النتيجة، في ظل ما تسبّبت فيه السياسات النيوليبرالية القاسية التي نفّذها ماكري، بالتنسيق المباشر مع صندوق النقد الدولي، والتي أدت إلى انفجار معدلات التضخم (55% حالياً) وسقوط البلاد في موجة انكماش اقتصادي شديد، فضلاً عن توريط الجمهورية في أكبر قرض مالي قدّمه صندوق النقد الدولي في كل تاريخه المديد، أي 57 مليار دولار. كل ذلك دفع الناخبين الأرجنتينيين، من الطبقات العاملة وحتى البورجوازية، إلى إسقاط ماكري من حساباتهم، ودعم ألبيرتو فيرنانديز مرشح حزب «العدالة» البيروني ــ يسار الوسط ــ الذي حصل على 48% من مجموع الأصوات. وعلى الرغم من أنه لا مفاعيل مباشرة لهذه النتيجة على بنية السلطة في ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، إلا أنها تعدّ بمثابة استطلاع واسع لتوجهات الرأي العام استعداداً للجولة الحاسمة.
الرئيس ماكري ــ المنحدر من أسرة بالغة الثراء، والذي كان قد تولى منصبه في عام 2015 ــ اعترف بالهزيمة القاسية، مقلّلاً في الوقت ذاته من أهميتها، وواعداً مناصريه بمضاعفة الجهود للفوز بدورة رئاسية ثانية لأربع سنوات. لكن من الواضح أن سمعة الرئيس وشعبيته قد تتضرّرتا بسبب سياساته الاقتصادية، على نحو يجعل من الصعب إنقاذه في ما تبقى من الوقت ما لم تحصل معجزة كبرى. ولن يساعده، بالطبع، ما كُشف عن مراكمته لثروة شخصية هائلة، خلال فترته الرئاسية الحالية، في الوقت الذي يخضع فيه ثلثا الشعب الأرجنتيني، على الأقل، لأسوأ سياسات التقشّف في القارة مقابل تضخّم متصاعد أفقد الأجور قيمتها، ودفع بالملايين من المواطنين إلى ما دون خط الفقر، فضلاً عن توظيفه الجيش ــ السيّئ السمعة ــ في قمع الاحتجاجات الشعبية.
في مقابل ذلك، يبدو ألبيرتو فيرنانديز، مرشّح حزب «العدالة» البيروني النزعة، أقرب إلى كسب المنصب الرئاسي. وهو رغم وسطيته ورماديته النسبية، اكتسب بشراكته مع الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنير ــ من خلال ترشيحها معه لمنصب نائب الرئيس ــ تأييد جمهور اليسار والبيرونيين التقليديين معاً. وقد وظّفا في خطابهما للناخبين، وبدهاء لافت، كل مثالب العهد للوصول إلى هذه النتيجة الممتازة، التي ترجّح غالبية المراقبين تكرارها في اقتراع تشرين الأول / أكتوبر المقبل. وتعدّ أقوى أوراقهما، استنادهما إلى ارتباطهما الوثيق بالروح التي لا تخمد لتراث الرئيس الراحل خوان بيرون ــ حكم البلاد في الأربعينيات من القرن الماضي ــ والذي ما زال مشروعه السياسي ملهماً للقطاع الأعرض من المواطنين الأرجنتينيين، وماثلاً في قلب السياسة في بوينس آيرس، بعد 70 عاماً على غيابه. وبالفعل، سيجد المُتابع للقاءات الشعبية التي عقدها الثنائي فيرنانديز ــ كيرشنير في أحياء العاصمة، أن عدد اللافتات التي تحمل صورة إيفا بيرون ــ عقيلة الرئيس الراحل ورمز تجربته السياسية ــ يزيد على صور المرشّحَيْن.
مع ذلك، لن تكون المهمة الأصعب أمام ثنائي حزب «العدالة» الفائز، في اجتياز اختبار تشرين الأول / أكتوبر المقبل، بقدر ما هي في صوغ مجموع سياسات اقتصادية وسياسية واجتماعية تضمن إزالة الأضرار البالغة التي سيرثانها من ماكري وفريقه، لا سيّما في مواجهة الولايات المتحدة التي لن يرضيها إقصاء فريقها الموالي، وصعود فريق جديد ذي نهج يساري التوجه، سيقلب صيغة الهيمنة شبه التامة على غالبية دول أميركا اللاتينية، وسيرسل إشارات لا تحبذها واشنطن إلى شعوب أميركا اللاتينية الأخرى، لا سيّما تلك التي ستقترع في انتخابات رئاسية، خلال أشهر قليلة مقبلة.
اعترف الرئيس ماكري بالهزيمة مقلّلاً في الوقت ذاته من أهميتها


وعلى الرغم من الصورة الرومانسية التي رسمتها هوليوود لإيفيتا ــ كما يسمّيها الأرجنتينيون ــ وللجمهورية في عهد خوان بيرون، فإن «البيرونية السياسية» ظاهرة حنين نوستالجي أكثر منها سياق سياسات محددة، ذلك أنها لم تفلح خلال توليها السلطة على مدى 35 عاماً تقريباً ــ أي نصف الفترة منذ غياب بيرون ــ في صياغة مشروع وطني شامل، أو تحقيق نهضة اقتصادية مستدامة أو امتلاك أدوات استقلال حقيقي عن هيمنة البيت الأبيض، وكثيراً ما انتهت ضحية لانقلابات عسكرية دموية نفّذها عتاة اليمين، الذين اعتبروا دائماً أن السياسات الشعبوية للتيار البيروني، والمعادية وإن بشكل فضفاض للنخبة وامتيازاتها، تأخذ البلاد إلى الكارثة.
ولم ينسَ كثيرون العهد الفاسد للرئيس كارلوس منعم، الذي ترشح باسم البيرونية، لكنّه نفّذ سياسات خدمت أصحاب رؤوس الأموال حصراً، وضاعف ثروته الشخصية، أو حتى الأداء الباهت للحكومات الوطنية في عهد الرئيس البيروني نيستور كيرشنير، ولاحقاً زوجته كريستينا كيرشنير، رغم أن الأخيرة لا تزال تتمتع بالشعبية بوصفها ضحية لمؤامرات اليمين الرجعي في البلاد، وما زال ثلث الشعب على الأقل يراها وريثة أيقونتهم التاريخية إيفيتا بيرون وأبرز حملة مشاعل «البيرونية».
ستتضاعف مصاعب الثنائي فيرنانديز ــ كيرشنير من دون شك، نتيجة الضغوط على الـ«بيسو»، التي انطلقت منذ الآن مع تراجع ثقة المستثمرين المرتبطين بالمصالح الرأسمالية المعولمة ودعاة التشبيك مع المنظومة الأميركية. هؤلاء يخشون من سياسات حمائية، وتخفيف متوقع للتقشف عن كاهل ثلثي الشعب على حساب القلّة المتنفذة في البلاد. ولذلك، فإن مهمة معقدة تنتظرهما على الجانب الآخر، فور عبورهما جسر انتخابات تشرين الأول / أكتوبر المقبل، وهما سيحتاجان إلى بناء تحالف سريع بين فئات متناقضة من البورجوازية الرثة والطبقات العاملة والعناصر الوطنيين في الجيش، على أساس قواسم مشتركة تضمن صمود البلاد في مواجهة العواصف الأميركية المحتّمة، وسيفها المشرع دائماً ضد الشعب الأرجنتيني.