يقول كارل ماركس إنّ التاريخ يأتي مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة ثانية على شكل مهزلة. ويبدو أن منصّة البثّ الرقمي الأميركيّة نتفليكس قد قررت أن تتولى بنفسها تحقيق نبوءة ماركس في ما يتعلّق بتاريخ أنشطة الموساد الإسرائيلي في العالم العربي عبر إعادة تقديمها درامياً في مسلسلات وأفلام من الدرجة الثانية على نحو يجعلها أقرب بالفعل إلى المهزلة منها إلى توثيق فني محترف للسرديّة التاريخيّة المؤسطرة التي طالما سعت الدولة العبريّة لبثّها بين جمهورها المحلي قبل الجمهور العربي والعالمي. بعد فيلم «الملاك» (2017) الباهت عن سيرة عميل الموساد المصري أشرف مروان (الأخبار، 08/08/2017)، ومؤخراً فيلم «منتجع البحر الأحمر» (2019) المخجل عن عمليّة ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان (الأخبار 09/08/2019)، ها هي نتفليكس تعود في إطار المهمّة الترويجيّة الآثمة نفسها في المسلسل الدرامي القصير «الجاسوس». الأخير عبارة عن 6 حلقات عن حياة ونهاية إيلي كوهين، العميل الإسرائيلي الذي حاول الموساد زرعه في دمشق بداية الستينات تحت اسم كامل أمين ثابت، قبل أن تكشف الاستخبارات العسكريّة السوريّة أمره، وتعدمه أمام العامّة في 1965. مسلسل أقرب إلى صياغة هزليّة لمأساة العميل الفاشل بتوقيع الممثل الكوميدي المعروف ساشا بارون كوهين بطل فيلم «بورات».
ساشا بارون كوهين في المسلسل

إخفاق الجاسوس كوهين ــ في نسخته المهزلة مسلسلاً ــ له وجوه عديدة منها النصّ المهلهل الذي حاول تقديم قصة لا تستحق أكثر من ساعة إلى ساعتين في ست ساعات كاملة، فوقع في التطويل والتفاصيل المملّة، والمبالغات التاريخيّة المثيرة للشفقة في إطار محاولة بناء أسطورة بطل قوميّ حول عميل هامشي (تسلّق أسطح، واختراق مواقع حدودية، وإنقاذ إسرائيل عدّة مرات خلال سهرة واحدة قصيرة)، والخدع السطحيّة لبناء مسرح جاسوسيّة تشبه أعمال الخمسينات في سذاجتها (مدفأة حائط متوفرة في الوقت المناسب رغم الصيف لحرق الرسائل، مدير أمن السفارة السورية في بيونس آيرس الذي يقتل بعد خروجه لمطاردة كوهين من دون أن يثير أيّ شكوك، والتجوّل بسهولة تامة بين غرف القيادة العسكرية السورية لجمع الوثائق وتصويرها، وتنفيذ عمليّات شحن مكلفة ومعقّدة لمجرد إيصال صحف دمشق متأخرة أشهراً عدة لمكتب الموساد بتل أبيب). أضف إلى ذلك الحوارات المفتعلة والمصادفات التي لا تصدّق والموسيقى التي لا تشبه الموسيقى، وتعدد الأخطاء الفنيّة والتقنيّة التي لم تعد مقبولة من قِبل الجمهور المعاصر (عمائر مغربيّة لا تشبه سوريا، سيارة حديثة في أجواء الستينات، الضباط السوريّون يحضرون بكل نياشينهم لسهرات الجنس الجماعي، وبائعات الهوى اللواتي يحضرن بثياب المضيفات الرسمي، وطبق الزبدة والخبز المتكرر في كل وجبات الأبطال ليلاً ونهاراً، وعبر الحدود، وأحاديث اللاسلكي السوري المتكررة في كل الأمكنة والأزمنة عن دوام الورديتين، والأعلام السوريّة التي تختلف بين علم الاستعمار والعلم الوطني من دون مبرر...)، والأداء البارد للممثلين (لا سيّما الضابط المشغّل لكوهين/ لعب دوره الممثل نوح إميريتش، والرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ/ لعب دوره وليد زعيتر الممثل الأميركي الفلسطيني الأصل المتخصص في لعب الأدوار لمسلسلات إسرائيلية)، ناهيك بتوظيف مكثّف للتنميطات الثقافويّة الفارغة حول الخير المطلق: الإسرائيليون الشجعان والمسالمون والمتحضرون وضحايا الهولوكست، في موازاة الشّر المُطلق: السوريون المتعجرفون الفاسدون المرتشون الذين يقلمون أظافرهم بأمواس الحلاقة، ويتسمون بالغباء والبلاهة وتسطّح الشخصيات، ويتصيّد جيشهم مزارِعات البندورة الشقراوات على الحدود.
هذه الوجوه العديدة للإخفاق في المسلسل ـــ وإن توزعت على طاقم العمل بالتساوي ــ فإنّ أباها الشرعي يبقى جدعون راف وحده الذي نقرأ اسمه أكثر من أربع مرات في بداية ونهاية كل حلقة ككاتب ومخرج المسلسل. وراف لمن لا يعرفه ضابط إسرائيلي سابق تحوّل بفضل حظّه الذي لا يصدّق مع شركات الإنتاج الأميركية إلى وجه مفروض على الإنتاج الدرامي العالمي من خلال «سجناء الحرب»، و«هوملاند» (الوطن)، و«تايرنت» (الطاغية) ومؤخراً فيلم «منتجع البحر الأحمر» على نتفليكس. أعمال تعاني جميعها من إخفاقات فنيّة لا تخفى، لكنها تخدم بشكل أو آخر استفراد السرديّة الصهيونيّة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وعن العلاقة بين الشرق والغرب عموماً، بالثقافة البصريّة المعاصرة.
إذاً فنياً، فإن لوثة نتفليكس الموساديّة الجديدة هذه في «الجاسوس» لا تشكّل خطراً فكرياً يحسب حسابه لذاته بقدر ما يخشى من إفادتها الأكيدة لاحتكار الجانب الأميركي – الإسرائيلي فضاء السرد البصري المعولم عن التّاريخ المعاصر، والذي يتحوّل مع تحوّلات طرائق تلقي المعلومات بعد الإنترنت إلى مصدر رئيس لتشكيل ثقافة ومعارف جيل جديد لم يعش تلك الأحداث، ولا يمتلك في معظمه الرغبة أو القدرة، أو حتى لا يدرك الحاجة للبحث والتنقيب عن الحقائق لفهم سياق الصراع الوجودي الذي تعيشه المنطقة العربيّة، بالترافق مع غياب كلّي لأي رواية بديلة.
استفراد السرديّة الصهيونيّة عن الصراع العربي الإسرائيلي بالثقافة البصريّة المعاصرة


تاريخياً، فإن الصّفعة التي وجهها السوريّون للموساد الإسرائيلي بقبضهم سريعاً على كامل أمين ثابت وإعدامه العلني في 1965 رغم الضغوط الدولية (والعربية) الهائلة لا يزال لها وقعها رغم مرور 54 عاماً. وقد بذلت السلطات الإسرائيلية جهوداً كبرى عبر علاقاتها الوثيقة بـ «مقاتلي الحريّة» الجهاديين الأميركيين في سوريا لاسترداد جثته من دون نجاح يذكر. حاول بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي شخصيّاً المتاجرة بأسطورته من خلال الاحتفال باسترداد ما قيل إنها الساعة الشخصيّة التي كان يرتديها كوهين وقت القبض عليه، وإن تبيّن لاحقاً أن تلك السّاعة بيعت كتذكار على موقع «إي بي» للمزادات العامّة.
كوهين المنحدر من أصول سوريّة الذي نشأ في مصر قبل هجرته إلى «إسرائيل» عام 1957، كان قد أرسل لدمشق في 1962 بعد خلق هويّة مزيّفة له كمسلم سوري ثري في الأرجنتين يحلم بالعودة إلى بلاد أجداده. وبالفعل، تقرّب كوهين من الشخصيات السوريّة في بيونس آيرس وبنى سمعة ساعدته في دخول سوريا لاحقاً. هناك اقتصرت بطولاته المزعومة على إنفاق مبالغ طائلة على استئجار شقة فارهة في حي أبو رمانة في دمشق ومرافقة شخصيّتين عاديتين من الدرجة الثانية عملا في وزارة الإعلام والقوات المسلحة السوريّة، كما ترتيب سهرات ماجنة لاستقطاب شخصيات بارزة في المجتمع السوري. لكن تهوّر كوهين في إرسال التقارير بداع أو بدون داع لإثبات نفسه وهو اليهودي السفارديم العربي أمام قادته اليهود الاشكناز الشقر، تسبّب في شكاوى من السفارة الهندية القريبة من شقة كوهين حول تداخل البث الشفري المخصص للسفارة ببثّ آخر. وقد استخدمت الاستخبارات السورية وقتها أجهزة روسيّة متقدمة كشفت عن صدور البث من شقة كوهين، فتمّ اعتقاله والتحقيق معه وصدر الحكم بإعدامه علناً باسم الشعب العربي السوري، وعرضت جثته لست ساعات قبل أن يدفن في قبر سري. قبل إعدامه، سُمح لكوهين بكتابة رسالة وداعيّة لزوجته لم يكن فيها أي تبجحات وطنيّة أو قوميّة، بل مشاعر مأساويّة لإنسان هامشي وقع ضحيّة للدعاية الصهيونيّة السامة، لتأتي نتفليكس اليوم وتبيعنا إياها مهزلة في سوق النّخاسة الأيديولوجيّة السيبيري.