جانب محكمة المطبوعات في بيروت المطلب: تنحّي أعضاء المحكمة
الجهة المدعى عليها: طالبة التنحّي: إبراهيم الأمين بصفته المدير المسؤول عن الجريدة ورفاقه
في السنوات الأخيرة، مثلت الجهة المدّعى عليها في عشرات الدعاوى أمام محكمتكم. ولا نستبعد أن يكون سبب بعض هذه الدعاوى هو ارتكابها أخطاء تحت ضغط سرعة الخبر، كان لها الشجاعة الكاملة على تحمّل مسؤوليتها.

ولكن الغالبية الكبرى للدعاوى المقدّمة للجريدة تعود للأسلوب المعتمد منها، وهو أسلوب الصحافة النقدية، التي تتطلع بالدرجة الأولى إلى فضح الفساد والتعدّي على الملك العام والاستهتار به واستقواء أصحاب الرساميل على العمّال، وبشكل عام إلى فضح استقواء كل صاحب نفوذ ضد فئات مستضعفة أو مستباحة، الصحافة التي تقطع مع المجاملة والممالقة والمسايرة، وبكلام أدق مع أدب المقامات. فتبعاً لهذا الأسلوب النقدي، قدّم نافذون عدة من عالم السياسة والمال والقضاء دعاوى ضد الجريدة أمام محكمتكم، طالبين تجريم من ينتقدهم على أساس قانون المطبوعات، من دون أن يكلّف أيّ منهم نفسه عناء أن يشرح للرأي العام ما إذا كان الانتقاد الموجّه ضده محقاً أو ليس كذلك. فكأنما المنصب لا يرتب على صاحبه مسؤوليات يحاسب في حال الإخلال بها، إنما فقط عزّ وجاه يشكل أي تعرض لهما جريمة لا تغتفر.
طوال هذه السنوات، انتهجنا أمام محكمتكم أسلوباً دفاعياً منسجماً تماماً مع أسلوب الجريدة وأهدافها: فعمدنا بانتظام كلي إلى إحاطة كل دعوى بأبعادها الاجتماعية ومقتضيات المصلحة العامة التي تبرّر انتقاد من لجأ إليكم أو نقده. فشرحنا الأهمية الاجتماعية لنشر بيان يدعو إلى مقاطعة شركات لها فروع في مستوطنات إسرائيلية في وجه شركة تجارية ضخمة لا يهمها إلا تسويق هذه المنتجات في لبنان (دعوى H&M ضد الأخبار)، وشرحنا أهمية اطلاع الرأي العام على محاضر قضائية في دعوى باتت علانية بعد صدور قرارها الظني (دعوى الحق العام ضد الأخبار وفداء عيتاني)، وشرحنا أهمية نشر وثائق ويكيليكس التي ورد فيها تهيؤ زعيم حزبي على تسليح مجموعته (دعوى القوات اللبنانية ضد الأخبار)، وشرحنا أهمية نشر مضمون قرارات صادرة عن ديوان المحاسبة أثبتت مخالفات هائلة في عمل وزارة المالية وكيفية إعداد الموازنات العامة، مخالفات من شأنها أن تؤثر على الخزينة العامة وعلى حقوق المواطنين كافة (دعوى الرئيس فؤاد السنيورة ضد الأخبار ورشا أبو زكي)، كما شرحنا أخيراً وفي إطار الدعوى المقدمة من القاضية رندة يقظان ضد «الأخبار» ومحمد نزّال أهمية فضح التدخلات في القضاء، ليس فقط لمحاسبة القضاة الذين يرضخون للضغوط الخارجية، إنما أيضاً وقبل كل شيء لوقف استباحة القضاء من قبل المتنفذين لتحقيق مآربهم والإفلات دوماً من العقاب. وقلنا آنذاك إن القضاء يفترض به أن يكون ملجأً لكل المواطنين على قدم المساواة، وإن أي تدخلات غير معلومة أو مستورة من قبل أصحاب النفوذ تشكل إخلالاً بهذا المبدأ لم يعد من الممكن السكوت عليه. وقلنا إن من شأن الحكم في القضية تلك أن يسهم في وضع حدّ لما سمّيناه ثقافة التدخل في القضاء وفي نشر ما تطمح إليه أي ديموقراطية جديرة بهذا الاسم، أي ثقافة استقلالية القضاء. وكنا مقتنعين بأن من شأن ذلك أن لا يحصّن القضاء ككلّ فقط، إنما أيضاً أن يحصّن محكمتكم وحقوق المتقاضين أمامها، فلا يجرؤ أحد على التدخل في أعمالها. وأنتم تعلمون كل العلم أننا طوال هذه السنوات، لم تقم الجريدة ولا أي من ممثليها بأيّ تدخل من أي نوع كان في أعمالكم.
وفضلاً عن الإحاطة بالأبعاد الاجتماعية للقضايا، عمدنا بشكل منتظم وبمثابرة باتت مزمنة إلى الإعلان عن حججنا القانونية لردّ الدعاوى: ففي الحالات التي يكون فيها قيّم على خدمة عامة، كنا نضع في المقدمة المادة 387 من قانون العقوبات التي تبرّئ الذم الموجه ضد قيّم على خدمة عامة في ما يتصل بهذه الخدمة في حال ثبوت صحة الأفعال موضوع الذم. وفي الحالات الأخرى، أي في الحالات التي يكون فيها المدّعي شركة تجارية أو شخصاً ليس له صفة رسمية، كنا نقدم مبدأ «أن التشهير حق حين يكون واجباً»، إذ من غير المنطقي في أي منظومة قانونية وقضائية أن يعاقب من يقول الحق في وجه الظلم، وأن يكون سقف حرية التعبير مراعاة الجريمة والفساد والاستكبار والترهيب. بأية حال، كنا في كل هذه الحالات نذكر الاجتهادات الصادرة عن الهيئة السابقة لهذه المحكمة والتي أجازت صراحة الذمّ في حالات كان هنالك مصلحة اجتماعية تقضي بذلك، وأيضاً الاجتهادات الصادرة عن محاكم فرنسية وأوروبية. وكنا نكرّر من دون ملل وكلل أمام محكمتكم أن التشهير حق حين يكون واجباً، وأن القيام بواجب اجتماعي لا يستوجب العقاب، إنما على العكس من ذلك، كل التقدير والثناء.
وأخيراً، قلّما حصلت مرافعة لم نُحط من خلالها بالقضية بالإثباتات المنتجة، مقدّمين لها كل ما توافر لدينا من إثباتات على صحة ما تضمنته المقالات موضوع الملاحقة. وفي بعض الحالات، عمدنا إلى تحرير مطالعات طويلة لنثبت مدى دقة المعلومات والتحليلات المنشورة، كما هي الحال في قضية رشا أبو زكي، حيث كان السند الأساسي قرارات صادرة عن مرجع قضائي (ديوان المحاسبة)، قرارات بقيت بمنأى عن أي طعن. وفي بعض الحالات، زوّدنا محكمتكم بما لدينا من إثباتات، طالبين منها السماح لنا باستكمالها من خلال الترخيص لنا بالحصول على وثائق سرية معينة وبالاستماع الى شاهد أو باستجواب المدعي(ة) كما حصل في قضية القاضية رندة يقظان، في ظل سرية الأحكام التأديبية الصادرة ضدها بداية واستئنافاً، والتي من الطبيعي أنها تشكل عنصراً حاسماً في القضية تلك.
ليس المكان مناسباً هنا للدخول في تفاصيل كل قضية. لكن، اليوم، وتبعاً لصدور الحكم في قضية رندة يقظان، بات من حقنا أن ندوّن على ضوء التجربة في محكمتكم النتائج الآتية:
أولاً، إن محكمتكم انحازت في قراءة القانون لاتجاه مناقض لما تفرضه المبادئ العامة لحرية التعبير، لتنتهي عملياً إلى حماية أصحاب النفوذ ضد أي اتهام إعلامي يوجه إليهم، مهما كان هذا الاتهام صحيحاً. فبدل أن تجتهد محكمتكم لضمان هذه الحرية، اجتهدت لتكريس قيم مخالفة لذلك تماماً. وانطلاقاً من ذلك، خلت جميع أحكامكم من أي تطبيق للمادة 387 من قانون العقوبات، رغم الإشارة إليها من باب رفع العتب أحياناً، كما خلت جميع أحكامكم من أي إشارة إلى المصلحة الاجتماعية أو الى مبدأ حسن النية كمبدأ مانع للمسؤولية الجرمية، أو الى ضرورة الموازنة بين حرية التعبير واعتبار الغير كما هي الحال في قضايا الدعوة الى مقاطعة إسرائيل. ومن هذا المنطلق، يصبح أي اتهام ذماً أو تحقيراً وانتقاصاً من كرامة المتنفّذ، بمعزل عن مدى صحته أو مشروعيته. وأخطر الشواهد على توجه محكمتكم في هذا الخصوص هو حيثيتها القائلة بأنه لا يجوز للصحافة (السلطة الرابعة) أن تبلغ تحت ستار «حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة» حد إصدار «الأحكام» بحق أشخاص محددين بالاسم، عملاً بمبدأ فصل السلطات. والواقع أن هذا الاجتهاد الذي تنفرد به محكمتكم في العالم مبني على مجموعة من الأخطاء: فمبدأ فصل السلطات لا يشمل الإعلام قط، ما يجعل إدراجه ضمن السلطات على هذا الوجه أداة للانتقاص من حريته تحت غطاء إعلانه كسلطة، كما أنه غير دستوري طالما أنه يؤدي إلى اختلاق قيود غير موجودة لحرية التعبير كما كرّسها الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، من شأنها القضاء عليه تحت غطاء تنظيمه. فمن حق الإعلام طبعاً القيام بتحقيقات ونشر نتائجها بموضوعية، فتشكل أحكاماً إعلامية تتميز عن الأحكام القضائية أنها صادرة عن إعلاميين، لا عن الشعب اللبناني، وأنها غير نافذة، فيحاسب الإعلامي لا لأنه أصدر حكماً، ولكن فقط إذا كانت أحكامه غير معلّلة وغير موضوعية وشكلت إخلالاً بأحد موانع قانون المطبوعات. لكن أن يقال إن إصدار أحكام إعلامية هو جرم بحد ذاته، فذلك اجتهاد خطير من شأنه أن يجرّد الإعلام من أي دور نقدي، وأخطر ما فيه أنه قد يؤدي الى تحصين أصحاب النفوذ إزاء المساءلة الإعلامية بعدما نجحت الجهات المتنفذة في ميادين كثيرة في تعطيل مجالات المحاسبة من ضمن المؤسسات.
ثانياً، إن محكمتكم انحازت في قراءتها لوقائع الدعاوى المنظورة منها لمصلحة أصحاب النفوذ. فتجاهلت غالباً ما قدمناه من وقائع. وهكذا، لا تجد محكمتكم حرجاً في معاقبة الجهة المدعى عليها لنشر تحقيقات في قضية باتت علانية، على أساس أن التحقيقات سرية من دون أن تكلّف خاطرها بالنظر الى المستندات التي تثبت أنها باتت علانية خلافاً لما تثيره وزارة الداخلية (وهذا ما فسخ استئنافاً). كما استصغرت محكمتكم من دون مبرر القوة الثبوتية لجميع قرارات ديوان المحاسبة بحق وزارة المالية والتي أثبتت ضرراً اجتماعياً هائلاً يعاني منه كل مواطن في حياته اليومية. ولكن أبرز الشواهد على خطورة هذا التوجه هو ما حصل في القضية الأخيرة (رندة يقظان ضد الأخبار)، حيث عبرت محكمتكم بشكل واضح عن مدى استصغارها لأي إثبات من شأنه أن يدين الجهة المتنفذة مهما كان حاسماً، وذلك من خلال القول إن الحكم التأديبي المبرم الصادر بحق رندة يقظان أدى الى إنزال رتبتها «درجتين ليس إلا». وهي بذلك لم تستصغر فقط المحاسبة الإعلامية، إنما مجمل إجراءات المحاسبة التي قام بها وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، بالتعاون مع أعضاء المجالس التأديبية بجرأة وشجاعة فحقق منها أمراً استثنائياً في العدلية. لا بل إن مدى الاستصغار وصل هنا إلى حد نعت كل ما أثير ضد رندة يقظان على أنه مجرد من أي إثبات جدي بل إنه خبر كاذب.
ثالثاً، إن هذا الانحياز الثابت وغير المبرّر لأصحاب النفوذ والمقامات يعني حكماً انحيازاً ضد حقوق المواطنين الذين يتعرّضون للمظالم وضد المصلحة العامة وضد وسائل الإعلام التي تمارس الإعلام النقدي والملتزم بحقوق المواطنين والمصلحة العامة. ومن حقنا أن نسجّل على ضوء كل ذلك اعتقاداً مشروعاً بتوجّه محكمتكم الراسخ في عدم إيلاء أي اعتبار لأي من دفوعنا القانونية أو الواقعية أو الاجتماعية، مهما كانت قوية وحاسمة ومنسجمة مع منظومة الحريات العامة، مع إيلاء كلّ الاعتبار لأي من حجج الجهات المتنفذة التي هالها أن يتم التعرض لها، مهما كان هذا التعرّض محقاً ومصيباً.
رابعاً، إن محكمتكم ليست محكمة عادية، إنما هي محكمة خاصة. وهي تستمد مشروعيتها الأساسية من تخصصها في قضايا الإعلام لما لهذا التخصّص من ضمانة لحرية الإعلام، وبشكل خاص من ضمانة لحرية الإعلام في مواجهة الجهات المتنفذة. أما وأن محكمتكم قد انحازت بوضوح كلي لما يناقض ذلك، فإنها تكون قد خرجت عن اختصاصها المنوط بها لتتحول إلى محكمة استثنائية مؤدّاها عملياً وبالمراقبة الحسية والتجربة حماية سمعة أصحاب النفوذ وأدب المقامات في مواجهة أي صوت ناقد أو معترض، وعملياً ضرب الإعلام الحرّ في صميمه.
لهذه الأسباب كلها، تطلب الجهة الموكلة،
احتراماً لذاتها ولتصوّرها عن دورها الاجتماعي وتوجهاتها الصحافية النقدية،
والتزاماً منها بحقوق المواطنين فضح أي إساءة تطال من حقوقهم الأساسية، حتى ولو أدى ذلك (ولا نبالغ إذا قلنا إنه يؤدي حتماً) إلى التشهير بمقام معين أو بمرجع متنفذ،
وتمسكاً بحقّها بالتمتع بمحاكمة عادلة ومنصفة أمام مرجع محايد ومستقل سنداً للمادة 20 من الدستور وللمواثيق الدولية،
ورفضاً منها للحضور أمام محكمة استثنائية،
جئنا نطلب من حضراتكم، رئيساً ومستشارين، التنحّي عن النظر في هذه القضية وفي مجمل القضايا التي تكون الجهة المدّعى عليها طرفاً فيها.
وتفضّلوا بقبول الاحترام
مع كل التحفّظات
نزار صاغية