لم يفصل سوى أقلّ من ثلاث سنوات بين تحريض رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، على نقض الاتفاق النووي مع إيران وحديثه عن أنها لن تجرؤ على الردّ بخرق مضاد، وبين تحذيره أخيراً أمام «الكنيست» من تداعيات تعاظم قدرات الجمهورية الإسلامية على الأمن القومي الإسرائيلي. المسافة الزمنية نفسها أيضاً فصلت بين ترويجه فكرة أن فرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران سيضعها أمام خيارين: إما السقوط أو الخضوع، وبين تحذيره بالأمس من صعود دولة عظمى في المنطقة تسعى إلى إزالة إسرائيل من الوجود. ليس ذلك خطأً في التقدير، بقدر ما هو تجلٍّ لانهيار المفهوم الأمني لإسرائيل في مواجهة إيران. استند هذا المفهوم إلى فكرة أن الجمهورية الإسلامية سترتدع عن المبادرة إلى أيّ خطوات عملانية تجنباً لردّ أميركي صاعق، لكن مسار التطورات التي شهدتها منطقة الخليج وصولاً إلى ضربة «أرامكو» أسقط كلّ هذه الرهانات، ووضع تل أبيب أمام معادلة جديدة تفرض عليها إعادة دراسة خياراتها بما يتناسب مع التهديدات المستجدّة، التي باتت شغلاً شاغلاً للخبراء والمعلّقين، ومادة بحث وتحليل لديهم. في هذا الإطار، دعا المعلّق السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت» شمعون شيفر، «صناع السياسات إلى الإجابة عن سؤال: كيف وصلنا إلى وضعٍ تُوجَّه فيه صواريخ جوّالة إيرانية نُصبت في شماليّ العراق نحو أهداف في إسرائيل». وذهب شيفر إلى حدّ وصف انكفاء الولايات المتحدة عن الردّ على ضرب منشآت النفط السعودية بأنه بمثابة «انهيار كامل للعقيدة الأمنية التي يقودها نتنياهو»، وترتكز بشكل حصري على «الرئيس الأكثر ودّاً (لإسرائيل) الذي يقيم في البيت الأبيض».انطلاقاً من كل تلك الهواجس والدعوات، بادر نتنياهو، قبل أيام إلى عقد جلسة للمجلس الوزاري المصغّر، بهدف دراسة الخطورة الكامنة في فشل الرهان على إخضاع إيران، والذي يتطلّب القفز فوق ما تواجهه إسرائيل من أزمات داخلية، وبلورة استراتيجية مضادّة، تهدف إلى احتواء مسار التطوّرات التي تسارعت وبشكل لافت في غير مصلحة الكيان، وفق ما أقرّ به نتنياهو. صحيح أن رئيس وزراء العدو لم يخفِ محاولته توظيف المستجدّات الإقليمية لصالح تشكيل حكومة واسعة برئاسته وسعيه من خلال تسليط الأضواء على تعاظم التهديدات المحيطة بالدولة العبرية، إلى ممارسة الضغط على بعض الأطراف للانضمام إلى حكومة برئاسته، وتوفير سلّم للبعض الآخر بهدف مساعدتهم على تبرير انعطافهم نحو هذا المسار الحكومي، بما يتعارض مع الشعارات التي رفعوها خلال الانتخابات. إلا أن ما يميّز صرخة نتنياهو بضرورة الاستعداد لمواجهة إيران هو أنها تتلاقى مع مواقف رئيس الدولة رؤوفين ريفلين، الذي أكد أن تشكيل الحكومة هو «أكثر من أي وقت مضى (تلبية) لحاجة اقتصادية وأمنية لم نعرف مثلها منذ سنوات طويلة»، وأيضاً مع مواقف خصومه السياسيين، ومن ضمنهم زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، الذي شدّد على أن إسرائيل تعيش «حالة طوارئ قومية» في ضوء «التحديات الاقتصادية والتهديدات الأمنية»، إضافة إلى تقديرات الأجهزة الأمنية التي أكدت ارتفاع مستوى التهديدات المُحدقة بالكيان.
نتنياهو: الواقع يفرض علينا التعاظم والتسلّح وتزويد جنودنا بأدوات دفاعية وهجومية


أجملَ نتنياهو القراءة الإسرائيلية للتطوّرات التي شهدتها البيئة الإقليمية في أكثر من مناسبة، من بينها، مرة أمام أعضاء حزب «الليكود»، وأخرى أمام «الكنيست». حذّر رئيس وزراء العدو في الأولى من أن المنطقة شهدت «حدثاً ما في الأسابيع الأخيرة. أصغوا لي جيداً. هذا شرق أوسط آخر، يحدث هنا شيء ما. شرق أوسط يتغيّر، وهو يتغيّر بسرعة». ثم أوضح هذا المستجدّ أمام «الكنيست» بالقول: «إننا نواجه تحدّياً أمنياً ضخماً آخذاً في التنامي من أسبوع إلى أسبوع، وتعاظم في الشهرين الأخيرين، وبشكل خاص في الأسابيع الأخيرة... إيران آخذة في التسلّح والاستقواء. جرأتها ووقاحتها آخذتان في التزايد. هي تهاجم ممرّات الملاحة الدولية، وتهاجم شبه الجزيرة العربية، وتهاجم في كل مكان. وهي ترسل مبعوثيها إلى كل مكان، وهي هاجمت مباشرة أيضاً طائرات أميركية، والآن حقول النفط السعودي». يؤكد حديث نتنياهو اتساع هامش المبادرة العملانية لدى إيران، وتفكيكها الطوق الردعي الذي أرادت الولايات المتحدة تقييدها به، وهو ما يؤشر إلى تبدّد الرهان على وقف دعمها لحلفائها في المنطقة والحدّ من تعاظم قدراتهم.
حاول نتنياهو أمام أعضاء «الليكود»، أن يكون لطيفاً في التقييم، وعاماً في رسائله، حيث قال: «لا تُخطئوا، أنا جداً أقدّر الضغط الاقتصادي الذي يمارسه صديقنا الكبير الرئيس ترامب ضد إيران»، لكنه كان صريحاً في الإشارة إلى انكفاء الولايات المتحدة بالقول إنه «في الشرق الأوسط توجد قوة واحدة فقط تقف عسكرياً ضد إيران، وهي نحن». يعبّر موقف نتنياهو عن السيناريو الأسوأ الذي كانت تخشى منه تل أبيب، وهو تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، وانعكاساته السلبية على الأمن القومي الإسرائيلي. يفرض ذلك الواقع على مؤسسة القرار في تل أبيب بلورة خيارات بديلة، تتلاءم مع حجم التحدّي الكامن في تبدّد الرهان على خيار الضغوط القصوى الأميركية، والذي تجلّى في استمرار تقدّم إيران في برنامجها النووي الذي يكاد أن يبلغ مرحلة حسّاسة مع الخطوة الرابعة المنتظرة الشهر المقبل، وفي ارتقاء الرسائل العملانية لحلفاء إيران في المنطقة (ضربة أرامكو نموذجاً). وفي هذا الإطار، قال نتنياهو إن إسرائيل «ستضطرّ في الفترة القريبة جداً إلى اتخاذ قرارات قاسية جداً»، أشار إلى بعض خطوطها العامة أمام «الكنيست»، حيث رأى أن «هذا الواقع يفرض علينا التعاظم والتسلّح، وتزويد جنودنا بأدوات دفاعية وهجومية، من حيث الحجم والقوة والنوعية، لم نشهدها من قبل، تذكّروا وسجّلوا كلامي».
وكان رئيس أركان جيش العدو أفيف كوخافي، تناول في خطته التي طرحها مطلع السنة الجارية، التطوّر النوعي في قدرات أعداء إسرائيل، وتقليصهم الهوّة مع الجيش الإسرائيلي، مشدداً على ضرورة التحرك السريع المضادّ. لكن التحرك الذي تحدث عنه كوخافي، وبعده نتنياهو، يتطلّب نفقات مالية متناسبة. وفي هذا الإطار، وتفادياً لأي أوهام، أشار نتنياهو إلى أن إسرائيل تحتاج إلى نفقات أمنية لم تسجّلها منذ حرب عام 1973، مبرراً ذلك بأن «الواقع تغيّر، ويتطلّب قرارات قاسية جداً». هكذا، تجد إسرائيل نفسها أمام تحدٍّ يتطلّب التقشّف في النفقات، تفادياً لارتفاع مستوى العجز في الموازنة عن 4% من الناتج المحلي. ومع أن الاقتصاد الاسرائيلي أكبر قدرة حالياً على تحمل نفقات إضافية؛ كونه أكثر تطوّراً مما كان عليه قبل عشرات السنوات، إلا أن نتنياهو لم يخفِ المشكلة الكامنة في رفع نسبة الموازنة الأمنية، كون هذا الأمر سيأتي على حساب مجالات اجتماعية، وهو ما أشار إليه في كلمته حيث قال: «لا توجد طريقة كي نضيف هذه المليارات مراراً، من دون أن نأخذها من مكان. اتخاذ هذا القرار قاسٍ بما لا يُقاس. (لكنه) قرار ينبغي اتخاذه على المستوى القومي الأعلى».