القاهرة | خلال ندوة عقدت ضمن فعاليات «مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية» قبل شهرين، تكرّر الجدل حول مفهوم السينما المستقلة، ومعايير هذا المفهوم في ما يخصّ التجارب المصرية تحديداً. انعكس الخلاف الدائر حول هذا المفهوم على رؤى المشاركين. مال المخرج المصري محمد خان إلى تسميتها «سينما الديجتال»، معتبراً أنّ العامل المحدد هو التقنية أكثر منه الفكر أو الرؤية.
لكنّ السيناريست والمنتج الشاب محمد حفظي قارب المفهوم من وجهة نظر إنتاجية بحت، فالسينما المستقلة هي التجارب التي لا تعتمد على الميزانيات الضخمة التي توفرها شركات الإنتاج الكبرى، بل تعمل بميزانيات صغيرة مقدّمة في صورة منح من جهات مختلفة لا يكون لها اليد العليا في التجربة الإبداعية، بل تترك الحرية شبه التامة للمخرج. ويبدو أنّ مسألة هامش الحرية هي كلمة السرّ وراء التجارب الإبداعية المستقلة، وخصوصاً في السينما التي تعد صناعة ثقافية كبرى من حيث الأرباح. لذلك، من العسير أن يمنح صاحب المال حرية أكثر من اللازم لمبدعي الفيلم، ما قد يقوّض إمكاناته الربحية أو يضعفها على الأقل. مع ذلك، حتى مقدار الحرية المتاحة للسينما المستقلة مسألة مشكوك فيها. وفقاً للمخرج والأكاديمي محمد كامل القليوبي، فإنّه ما دام الفيلم يخضع في توزيعه لآليات وشبكات التوزيع نفسها التي تسري على الأفلام الأخرى، فلا يمكن اعتباره مستقلاً، بل ما زال ضمن حلقة السينما التجارية بكل مثالبها. بصرف النظر عن التحديد الواضح لمفهوم السينما المستقلة، أو لنقل السينما الجديدة (المصطلح الأكثر مراوغة)، فإن تجارب عدة استطاعت فرض وجودها، وخصوصاً في المهرجانات حيث نالت الجوائز والاحتفاء النقدي، لكنّها أيضاً حقّقت المعادلة الصعبة في انتزاع أرقام جيدة في الإيرادات. من بين تلك التجارب الروائية الطويلة، فيلمان يُعرضان ضمن «أسبوع آفاق السينمائي» هما «فرش وغطا» (2013 ـ 86 د ـ 7/3) لأحمد عبد الله، و«هرج ومرج» (2012 ـ 76 د ــ 11/3) لنادين خان، وشريط تسجيلي قصير هو «موج» (9/3) لأحمد نور. يعد «فرش وغطا» ثالث أعمال أحمد عبد الله الروائية بعد «هليوبولويس» و«ميكروفون» اللذين لم يكن حظهما من الاحتفاء النقدي والجوائز بأقل من حظ «فرش وغطا». لعب بطولة الأخير النجم الشاب آسر ياسين مع مجموعة من الشباب منهم الممثلون المحترفون، ومنهم أشخاص حقيقيون التقاهم المخرج في مواقع التصوير. يفتح أحمد عبد الله معهم حواراً مرتجلاً أمام الكاميرا، ما أضفى على فيلمه نكهة السينما التسجيلية التي ميّزت فيلميه السابقين، وإن كانت أخف وطأة هذه المرة. يتميز العمل بحالة درامية غامضة وضبابية استطاعت أن تعكس الأوضاع التي مرّت بها مصر في الأيام الأولى من «ثورة 25 يناير» من ارتباك وتخوّف، وإن رأى البعض أن الفيلم انزلق في نهايته على الأقل إلى كليشيه الوحدة الوطنية.
بخلاف الشجن المهيمن على صورة وصوت «فرش وغطا»، يفاجئنا «هرج ومرج» بحالة بصرية وصوتية تكاد تعكس عنوانه بكل أمانة. الحي العشوائي الذي يبدو كأنه خارج العاصمة، يفور ويغلي أمامنا بأشخاصه وحكاياتهم ومؤامراتهم وطموحاتهم الهزيلة. لعلّه مذاق جديد لما اعتدنا تسميته «سينما المهمشين والعشوائيات»، لكنه لا يثير ميلودراما ساذجة لكسب تعاطف المشاهد، فلا وجود للتباكي على حال هؤلاء «الغلابة» الذين يمكن اعتبارهم ضحايا المجتمع بكل معنى الكلمة. حتى مشكلات مثل توزيع أنابيب الغاز والخضار واللحوم تُقدَّم في إطار من الخفة التي تقارب الفانتازيا من دون استغراق في السخرية. الفيلم الأول لنادين خان يبشر بوعي سينمائي مغاير، وإحساس جمالي شديد الخصوصية. التجربة الثالثة هي شريط يمزج النوع التسجيلي بفن الرسوم المتحركة. عبر هذه اللغة المختلفة، يروي «موج» لأحمد نور حكاية السويس وما عبرته من مراحل تاريخية، وصولاً إلى «ثورة يناير». لم يستسلم المخرج وابن السويس للشروط الصارمة للواقع ولهذا النوع من السينما، بل قدّم شريطاً غير واقعي بمعادلات بصرية غير واقعية أيضاً. ومن مصر أيضاً، تطرح فيولا شفيق في وثائقي «أريج» (2014 ـ 90 د ـ 5/3) أسئلة ما بعد الثورة وآفاق المستقبل. أطلق بعض النقّاد على سينما الثمانينيات في مصر «سينما الصراصير»، نظراً إلى التصاقها بواقع البسطاء ومشكلاتهم اليومية، وابتعادها عن سينما القصور المخملية. كانت هذه الموجة مولداً جديداً للسينما المصرية، فهل تكون السينما المستقلة (مهما كان ما يشير إليه المفهوم) قبلة الحياة للفن السابع المصري راهناً بعد انحسار موجة المضحكين الجدد؟