في خطوة هي الاولى من نوعها في تاريخ عمل رياض سلامة كحاكم لمصرف لبنان، ومن وحي أجواء الـ«كابيتال كونترول» الرائجة بين المصارف وزبائنها بتوجيهات مباشرة من الحاكم، صدر أمس تعميم يمنع المصارف من توزيع أرباحها للعام 2019، ويفرض عليها زيادة أموالها الخاصة الأساسية بنسبة 20% من حقوق حملة الأسهم العادية، أي بقيمة تقدّر بنحو 4 مليارات دولار موزّعة مناصفة على عامي 2019 و2020. يكشف هذا التعميم عن عمق الأزمة المالية والنقدية التي لم يعد ينفع معها وضع قيود على ودائع الزبائن وسحوباتهم، بل بات يجب توسيع مروحة القيود لتشمل أرباح المصارف وأموال مساهميها. بمعنى آخر، يرسم التعميم بداية مرحلة «هاتوا الدولارات» ويعلن نهاية مرحلة «خذوا ما تشاؤون من الأرباح»، مبرّراً خطوته بارتفاع احتمالات التدهور في موجودات المصارف وتزايد خسائرها.وجاء التعميم الرقم 13129 المتعلق بالإطار التنظيمي لكفاية رساميل المصارف العاملة في لبنان، وبموجبه أضاف مادّة إلى القرار الأساسي الرقم 6939 تنصّ على الآتي:
«يطلب من المصارف اللبنانية: عدم توزيع أرباح عن السنة المالية 2019، زيادة أموالها الخاصة الأساسية بنسبة 20% من حقوق حملة الأسهم العادية كما هي بتاريخ 31/12/2018 وذلك عن طريق مقدمات نقدية بالدولار الأميركي وفقاً لما يلي:
- بنسبة 10% خلال مهلة حدّها الأقصى 31/12/2019.
- بنسبة 10% إضافية خلال مهلة حدها الأقصى 30/6/2020».
بمعزل عن الاحتقار الذي يطال الليرة اللبنانية مباشرة، فإن هذا التعميم استند إلى ثلاثة مواد أساسية في قانون النقد والتسليف: 70 و174 و175. الأولى تتحدث عن مهمة مصرف لبنان العامة: «المحافظة على سلامة النقد اللبناني وعلى الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة أوضاع النظام المصرفي». والثانية تحدّد صلاحيات واسعة لمصرف لبنان: «استخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمن تسيير عمل مصرفي سليم» وتحديد وتعديل «قواعد تسيير العمل التي على المصارف التقيد بها حفاظاً على سيولتها وملاءتها»، والثالثة تنصّ على الآتي: «بغية تأمين سلامة العمل المصرفي، للمصرف المركزي أن يحدّد بين الحين والآخر بشكل عام أو لكل مصرف على حدة، النسب الواجب توفرها بين الموجودات والمطلوبات أو يبيّن بعض عناصر الموجودات هذه والمطلوبات فيما بينها. وتعتبر الأموال الخاصة بمثابة المطلوبات في مفهوم هذه المادة».

مرحلة قلقة
تشكّل بناءات التعميم تمهيداً لمرحلة مختلفة لجهة الأولويات والأهداف والهواجس. مضمونه ينطوي على أحد أشكال القيود الزجرية على أرباح المصارف ورساميلها، أي ما يمكن اعتباره «كابيتال كونترول» متنكّر على شكل تعميم يتعلق بملاءة المصارف. والواضح أنه يمثّل مرحلة التراجع عن الهندسات التي بدأت في صيف 2016 بهندسة كبرى حققت للمصارف أرباحاً بقيمة 5.5 مليارات دولار أتيح تحرير جزء منها وتوزيعها على المساهمين بقرار من سلامة. لاحقاً، في تموز 2019، سمح سلامة للمصارف بتسجيل أرباح الهندسات بشكل فوري في الميزانية بشرط ضخّها مباشرة في رأس المال.
أما اليوم فهو يقرّ بشكل غير مباشر بأن أصل القيام بهذه الهندسات لم يعد ممكناً بعدما جفّت مصادر أموال المصارف. بعد كل هذه الهندسات المتواصلة منذ 2016 لغاية اليوم، لا يزال مصرف لبنان بحاجة متزايدة إلى الدولارات الآتية من الخارج، التي تسهم في ترميم احتياطياته بالعملات الأجنبية. لذا، يعتقد سلامة أن منع توزيع الأرباح لعام 2019، والمقدرة بنحو 1.78 مليار دولار، لا يكفي، بل يجب إلزام المصارف بضخّ 2015.4 مليون دولار في الرساميل (تمثّل 10% من الأموال الخاصة الأساسية)، أي كامل أرباح 2019 مضافاً إليها «مقدمات نقدية» بقيمة 235 مليون دولار يدفعها حملة الأسهم في المصارف في 2019، على أن تؤمن المصارف 2015 مليون دولار إضافية في 2020، سواء من أرباحها أو من مساهميها.
هكذا يسعى سلامة لإرغام بعض مساهمي المصارف الذين هرّبوا أموالهم إلى الخارج (يتردّد أن هناك ثلاثة مصارف قامت بالأمر) إلى إعادتها إلى لبنان حيث الحاجة ملحّة لها، كما يفرض على مساهمي المصارف الأجانب المساعدة على استقطاب الودائع بالدولار التي يحتاج إليها لبنان للضرورة.
على المصارف أن تضخّ 2 مليار دولار في رساميلها لمدّة سنتين


وهذا لا يعني أن «ورقة» الهندسات احترقت فحسب، بل يعني أيضاً أن مالكي المصارف اللبنانيين باتوا في وضع محرج جداً مع شركائهم في الخارج. فضخّ المساهمات في المصارف يعني أن تسعير المصارف سيكون مشكلة المشاكل بين المساهمين أنفسهم في ظل الأزمة القائمة، فضلاً عن إمكان امتناع بعضهم عن المشاركة في هذه العملية، وبالتالي تقلّص حصصهم في ملكية المصرف، أو سعي بعضهم الآخر إلى بيع هذه الحصص بأسعار بخسة.

فقاعة الديون
ولهذا التعميم جانب آخر يتعلق بقلق مصرف لبنان من ارتفاع نسبة الديون المشكوك في تحصيلها أو الديون الرديئة التي تتضخّم بشكل صامت وباتت تشكّل فقاعة كبيرة تخفيها المصارف ويسكت عنها مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. فالتوقعات في ظل الركود الاقتصادي والارتفاع المتسارع والكبير في أسعار الفوائد، ونشوء سعر صرف لليرة مقابل الدولار موازٍ للسعر المحدّد من مصرف لبنان، وانكماش الاقتصاد بسبب السياسات التقشفية التي مارستها الحكومات في السنوات الأخيرة، وارتفاع نسبة إغلاق الشركات وصرف العمال، وبما أن المصارف صارت ترفض إعادة جدولة القروض من أجل تحصيل ما أمكنها من مبالغ من الزبائن لتحسين وضعية سيولتها وزيادة احتياطاتها في مواجهة أزمة طويلة... كلها عوامل ستؤدي إلى ارتفاع نسبة الشركات والأفراد الممتنعين عن السداد، وارتفاع نسبة الديون الرديئة أو المشكوك في تحصيلها ستزداد، ما يفرض على المصارف أن تزيد المؤونات مقابلها، وأن تشطب الديون الهالكة. في النصف الأول من السنة الجارية شطبت مصارف «ألفا» التي تمثّل أكبر 16 مصرفاً في لبنان وحصّتها السوقية 85% من مجمل القروض للقطاع الخاص المقيم، ما قيمته 2.4 مليار دولار من الديون الهالكة... والحبل على الجرار.