باقٍ يومان على انتهاء عقد مشغلّي شبكتي الخلوي في لبنان. التعامل مع التمديد لشركتي «ألفا» و«تاتش» على أنه اضطراري وهدفه استمرارية المرفق العام، يتطلب ترك الأمور إلى اليوم الأخير. لذلك لم يتم تمديد العقدين حتى اليوم، رغم أن وزارة الاتصالات أعدّت المرسوم منذ مدة. من جهته، لم يتعب وزير الاتصالات محمد شقير من الإيحاء بأنه حريص على المال العام. يعتقد أنه أذكى من الناس، فيُصدر بيانات يرفض فيها «الاتهامات بدون أدلة»، لكنه لا يتردد بالتغاضي عن كل الأدلة التي تثبت غرق قطاع الاتصالات في الفساد. يتحدّث عن رغبته بالحوار مع المنتفضين المتنقّلين بين منزله ومقرّ الهيئات الاقتصادية، لكنه لا يتردد في قمعهم بالقوة عبر مرافقيه وحراسّه، بحجة «الاعتداء على حرمة المبنى والساكنين فيه». ذكاؤه يقوده أيضاً إلى التركيز على «الاختلاف في الرأي بين المعتصمين» لا على ضبط الانفاق العام في زمن الانهيار. كما يقوده إلى الربط بين استقالة الحكومة وعدم إنجاز مجلس الوزراء لدفتر شروط مناقصة تشغيل شبكتي الخلوي، وبالتالي الاضطرار إلى تمديد العقدين. يتناسى بذلك أن ما أعاق السير بالمناقصة هو مجموعة من اللاءات التي رفعها هو وفريقه في وجه التعديلات التي طرحت على دفتر الشروط. أصرّ بشكل غريب على إدخال شركات لبنانية، إلى جانب الشركات العالمية في المناقصة، رغم أن المطلوب ليس سوى إدارة شبكة تُدار، في الأساس، بقدرات موظفيها. ولذلك، هو يجافي الحقيقة عندما يقول إن استقالة الحكومة هي التي أدت إلى تطيير المناقصة. سبق أن أعلن شخصياً أن التمديد حتمي، قبل انطلاق الانتفاضة أو استقالة الحكومة. لكن في بيانه أمس تواضع. اكتفى بالإشارة إلى أنه «أرسل كتباً الى المرجعيات الحكومية والمعنية للتشاور معها واستبيان رأيها في الخيار الأفضل للتعاطي مع هذا الملف». بعدما أعلن أن دفتر شروط المناقصة كان سيُعرض على مجلس الوزراء قبل نهاية تشرين الأول (إعلان غير صحيح لأن الاتفاق بشأن المناقصة لم يكن قد أنجز)، أبدى حرصه، في مقاربته الحلول المطروحة، على أمرين: «عدم فرض أي حل على وزير الاتصالات في الحكومة المقبلة، وكذلك الحفاظ على تسيير قطاع الخليوي والحفاظ على المال العام».بالنتيجة التمديد لشركتي الإدارة الحاليتين صار أمراً واقعاً. سيُقدّم بوصفه الخيار الأفضل، رغم كلفته الباهظة ورغم أن الوزارة قادرة على إدارة القطاع بنفسها، كما سبق أن حصل عام 2009. الوضع أفضل اليوم. لا حاجة سوى لتعيين مدير يمثل الدولة في القرارات الأساسية، فيما الشركة ستشغّل نفسها بنفسها بالكفاءات التي تزخر بها. كل ذلك لا يهم. المهم أن الحرص على استمرارية المرفق لا يترجم إلا بالتمديد للشركتين. فات شقير وكل من سيوقع على المرسوم الجوّال أن التمديد الأخير (من آذار حتى نهاية العام الحالي) كان مشروطاً بإنجاز المناقصة، فإذ بالتمديد، الذي أنجز بحجة المناقصة، سيُمدّد في غيابها! لكن مهلاً، هل عمد أحدهم إلى التدقيق بأداء الشركتين، والتأكد من حسن إدارتهما للقطاع؟ ليس النقاش هذه المرة مرتبطاً بشبهات فساد. الأخطر هو سوء الإدارة.
في الاجتماع الذي عقدته لجنة الاتصالات النيابية، في 16 أيلول 2019، عرض المستشار في اللجنة الدكتور علي حمية واقع عمل الشركتين، في ما خص بيانات الإنترنت تحديداً. في العرض خلاصة صاعقة: كل الاستثمار الذي يتركّز بشكل أساسي على تطوير خدمة الداتا لم يؤد سوى إلى تراجع استهلاك الداتا! وإن كان يفترض بالنفقات الاستثمارية أن تكلّف 49 مليون دولار (استناداً إلى دراسة مقارنة مع الأردن الذي يتمتع قطاعه الخلوي بخصائص مشابهة للقطاع في لبنان)، فقد بلغت هذه النفقات 215 مليون دولار، أي بزيادة 166 مليون دولار عن الكلفة المفترضة. كما أن الدراسة التي عرضت في لجنة الاتصالات تُبيّن أن معدّل الانفاق الاستثماري لدى سبعة مشغلين لشبكة الخلوي في أوروبا هو 97 مليون دولار، فما القيمة المضافة المقدمة في لبنان حتى تصل النفقات الاستثمارية إلى ضعف ما ينفق في أوروبا (أسعار البنية التحتية لشبكات الانترنت تنخفض بشكل مضطرد)؟ حتى مع افتراض حُسْن النية، فإن الاستثمار الكبير يجب أن يؤدي، على الأقل، إلى تحفيز عملية الاستهلاك للداتا، وبالتالي زيادة الايرادات، فهل حصل ذلك؟
الارقام المقدمة من الشركتين إلى اللجنة تشير بوضوح إلى أن الايرادات تتراجع. وهذا يقود إلى أمر آخر. كيف يُدفع للشركتين حوافز بقيمة 14 مليون دولار (9.5 مليوناً لـــ«تاتش» و5.5 مليوناً لـــ«ألفا»)، إضافة إلى رسوم الإدارة التي تصل إلى 20 مليون دولار، بالرغم من انخفاض الإيرادات وتراجع الخدمة؟
استهلاك الانترنت في لبنان من الأدنى في العالم


اللافت أن الشركتين، كما وزارة الاتصالات، تُبرّران تراجع الايرادات بلجوء المستخدمين إلى الداتا وانخفاض استعمال الاتصالات الصوتية (قدمت «ألفا» في تقريرها إلى اللجنة مجموعة من السيناريوهات التي تعتبر أنها تساهم في زيادة الايرادات ومنها تخفيض أسعار الانترنت). لكن هذا المبرر يبدو غريبا عندما يتبين أن معدل استخدام الداتا في لبنان متدن بالمقارنة مع الاستهلاك في بلدان أخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا. ففي العام 2018، وبحسب دراسة أجرتها «إريكسون»، بلغ معدل استهلاك الانترنت 1.75 جيغابايت شهرياً لكل مشترك، بينما يصل معدل الاستهلاك في الشرق الاوسط وإفريقيا إلى 2.9 جيغابايت، ويرتفع في أوروبا الغربية إلى 6.1 جيغابايت وإلى 8.6 في أميركا الشمالية.
بالنتيجة، بلغت إيرادات قطاع الخلوي في العام 2018 ما يعادل 1.554 مليار دولار، متراجعة 43 مليون دولار عن العام 2017. وهذا التراجع الذي يناقض كل النمط العالمي حيث يتحقق نمو سنوي كبير، تحقق بالرغم من أن مجموعة النفقات التشغيلية والرأسمالية في هذين العامين وصل إلى 1.160 مليار دولار.
لا تدل هذه الأرقام سوى على سوء الإدارة لأن كل هذا الصرف، ومعظمه استثماري (يفترض أن أغلب الاستثمارات تتعلق بتطوير شبكة الانترت) لم تؤد إلى وصول الاستهلاك المحلي إلى المعدلات المسجلة في الشرق الأوسط وإفريقيا وهي المعدلات الأدنى في العالم. فلو وصل الاستهلاك إلى هذا المستوى المتاح عملياً لتمكّن لبنان من تحقيق زيادة في الأرباح بقيمة 355 مليون دولار. هذا لم يحصل. ما حصل أن الإدارة الناجحة للقطاع ساهمت في تراجع إيرادات الخلوي، بخلاف كل المؤشرات العالمية، بالرغم من كل الاستثمار في شبكات الانترنت.