الاستنتاج الثالث و«الأهمّ»، يفيد بالعثور على جين «mcr-1» في 44% من عينات بكتيريا «E. coli» تم عزلها عن مياه الاستخدام المنزلي ومياه الصرف الصحي في مخيمات النازحين المنتشرة بين البقاع والجنوب. وهذا يعني أمرين: أن الجين دخل في منظومتنا الغذائية وهو قابل للانتقال بسرعة بين البكتيريا بأنواعها المختلفة، وأن الأخيرة تتحوّر من خلال الطفرات الجينية (Mutations) لتصبح مقاوِمة للمضادات الحيوية المستخدمة في علاج العدوى، بما فيها الـ«كوليستين». وعندما تشهد البكتيريا المقاومة للمضادات زيادة كبيرة في النمو لسهولة تنقلها بين البشر والحيوانات، يتحقق السيناريو الذي يتخوف منه العالم اليوم: العودة إلى عصر ما قبل المضادات الحيوية!
ماذا يعني ذلك؟
ثبات وجود جين «mcr-1» في بكتيريا «E. coli» التي ينقلها الدجاج إلينا عبر السلسلة الغذائية يعني، عملياً، أن أجسادنا «خرقتها» البكتيريا التي تتغذى على الـ«كوليستين»، وقد لا نعود قادرين، في المدى القريب، على مواجهة تفاقم مقاومة البكتيريا للعلاج. وعليه، تصبح الأمراض التي كان يمكن علاجها مطلع القرن الماضي، مميتة مرة أخرى بسبب ضعف قدرة المضادات الحيوية على مقاومة البكتيريا. بمعنى أن الإجراءات الطبية الشائعة، مثل العمليات القيصرية وزرع الأعضاء والعلاج الكيميائي، قد تصبح محفوفة بالمخاطر إلى درجة لا يمكن تصوّرها. ولهذا السبب، تعتبر منظمة الصحة العالمية مقاومة العقاقير واحدة من «أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العالمية والأمن الغذائي والتنمية». وهي المشكلة التي قد تتسبّب بوفاة نحو 10 ملايين شخص سنوياً بحلول سنة 2050، وفق دراسة نشرت عام 2016 ، ما لم تتخذ إجراءات جدية لكبح تمدّد الظاهرة، خصوصاً في قطاع الزراعة الحيوانية.
مبيع بلا قيود
قبل أن يشرع قاسم في أبحاثه اللاحقة حول انتشار الجين المقاوم للكوليستين في لبنان، لاحق - بحثياً - العوامل التي رافقت نشأة الجين في البيئات الزراعية الصينية منذ اكتشافه. صحيح أن وضع الجين في لبنان كان شبه مجهول في حينه، إلا أن خطورة «mcr-1» تكمن في أنه «لا يلتصق بجرثومة واحدة»، بل يمكنه القفز بين أنواع من الجراثيم، مما يجعله سهل الانتشار.
90% من عينات أخذت من مزارع تحتوي على بكتيريا مقاوِمة لأقوى المضادات الحيوية
لذلك، ركّز قاسم أبحاثه على الممارسات الزراعية في لبنان، وأجرى مسحاً لمخازن الأدوية البيطرية، ليكتشف أن الـ«كوليستين» «متاح على نطاقٍ واسع للاستخدام الحيواني، ويمكن شراؤه من دون وصفة طبية من الطبيب البيطري، تحت اثنتي عشرة علامة تجارية مختلفة»، بينها كوليسولتريكس (Colisultrix)، ألتيبيوتيك (Altibiotic)، كوليكسين (Colexin)، أمبيسين (Ampisin)، كوليسول (Colisol) ومونتاموكس (Montamox). وهو ما يبدو مستغرباً باعتبار أن مركّبات الـ«كوليستين» غير متوفرة في الصيدليات العادية وهي متاحة فقط في صيدليات المستشفيات لعلاج الحالات المستعصية. ما يعني أن المزارعين في لبنان، و«أغلبهم لا يعرف شيئاً عن تداعيات الاستخدام الخاطئ للمضاد» وفق قاسم، «يستحصلون عليها من مخازن الأدوية البيطرية، وبطريقة شرعية». يطرح ذلك تساؤلات في شأن الجهاز الرقابي في وزارة الزارعة، وتحديداً مصلحة مراقبة الاستيراد والتصدير. إذ أن الـ«كوليستين» لا يُنتج محلياً بل يُستورد، غالباً من إيطاليا، عبر شركات أدوية محلية كبرى. وما يبدو خطيراً أن الاستمرار في استخدامه في الزراعة يزيد من احتمال أن تصبح البكتيريا في لبنان مقاومة للمضادات ذات «الأهمية المصيرية بالنسبة للطب البشري» حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية. ويصبح الـ«كوليستين»، بالتالي، عديم الفائدة في علاج المرضى.
من دلهي إلى بيروت: «blaNDM-1» في مياه البحار والأنهار
بعد دراسة الممارسات الزراعية والاستخدامات السريرية لهذا المضاد، قرر فريق البحث تعميق دراساته حول استخدامات «كوليستين» بعيداً عن مزارع الدواجن ومياه الري فيها . وانطلاقاً من النتائج الخطيرة، بعد فحص عينات من مياه الاستخدام المنزلي ومياه الصرف الصحي في مخيمات النازحين، أجريت دراسة أخرى، بإشراف الأستاذ في كلية العلوم الزراعية والغذائية هادي جعفر، عُثر بنتيجتها على جين آخر هو «blaNDM-1» في 45% من عينات جرثومية مأخوذة من مياه البحر، وفي 95% من العينات المأخوذة من مياه عدد من الأنهار. وهو جين ينتج ما يصفه بعض الخبراء بـ«جراثيم خطيرة» تتمتع بمقاومة عالية للمضادات الحيوية، وسبق أن عثر عليه عام 2011 في العاصمة الهندية دلهي في المياه المنزلية. صحيح أن نتائج هذه الدراسة، الحديثة جداً، لم يُجرَ تعميمها رسمياً حتى اللحظة، إلا أنها تؤكد، بلا شكّ، أن نمو وانتشار البكتيريا والفايروسات المقاومة لكافة أنواع المضادات غير مستبعد في لبنان، وأنها سهلة الانتقال عبر الدواجن، ومياه الري والصرف الصحي، إلى جانب مياه البحار، في بلادٍ تعاني في الأساس من بنية تحتية هشة، ونظام صحي يسير بقوة... الدفع الإلهي!
وزارة الزراعة: لا كتاب... لا جواب!
حسب رئيس مصلحة إنتاج وتربية الحيوان في وزارة الزراعة، سليم المصري، فإن «كل ما يتعلق بقطاع الزراعة الحيوانية يتحمل مسؤوليته مدير الثروة الحيوانية، الطبيب البيطري الياس ابراهيم». الأخير، في اتصال مع «الأخبار»، قال إن «أي إجابة على أي استفسار تستدعي إرسال كتاب رسمي إلى الوزير حسن اللقيس، يجيز لنا التحدث مع الصحافة». وعندما حاولت «الأخبار» التواصل مع الوزير، لم تلقَ منه أي جواب.
استهلاك «كوليستين» في لبنان إلى ارتفاع
بعد فحص كمية الـ«كوليستين» المستوردة إلى لبنان بين عامي 2010 و 2017، لاحظ الأستاذ المساعد المتخصّص في العلوم الجرثومية والغذائية عصمت قاسم زيادة بنحو خمسة أضعاف في الكمية، في مؤشر واضح على زيادة غير مسبوقة في الإصابات المقاومة للمضادات المتعددة في مستشفيات لبنان، والتي تتطلب استعمال هذا المضاد. وبعملية حسابية بسيطة، قدّر أن «ما يقرب من ثلاثة آلاف مريض لبناني (0.05٪ من التعداد السكاني)» استدعت حالتهم العلاج بالكوليستين. وهو «رقم مخيف، بل كارثي، في حال أصبح الكوليستين غير فعّال».
علاج «الملاذ الأخير»
منشطات النمو المستخدمة في تربية الدواجن هي مضادات حيوية تُعطى للطيور لحمايتها من الأمراض أو لجعلها تكتسب وزناً أسرع بغية تحقيق ربح أكبر. الـ«كوليستين» هو أحد أبرز المضادات التي باتت تستخدم لهذا الغرض. وقد أعيد استخدامه سريرياً بعد شيوع حالات مستعصية مقاومة للمضادات، على الرغم من أنه تمّ التخلي عنه بالكامل في السبعينيات بسبب سُميّته. يطلق عليه الأطباء تسمية «الملاذ الأخير» لأنه يستخدم لعلاج المرضى المصابين بأمراض خطيرة من الالتهابات التي تقاوم جميع المضادات الأخرى تقريباً.