لم يكن جو بايدن، طوال مسيرته في السياسة، إلا على هامشها؛ كلّما اشتغل لفرض نفسه، تعثّر أكثر، وكلّما جرى تسويقه منافساً وحيداً في مواجهة دونالد ترامب، سقط سقوطاً مدوياً. لثلاث سنوات مِن عمر رئاسة ترامب، لم تُشكّك طغمة الحزب الديموقراطي في أن مَن تتعامل معه بصفته مرشّحها المفضّل وشبه المضمون قادر على المنافسة، رغم أن أحداً غيرها لم يقتنع يوماً بهذه الفرضية. فرضيّةٌ بيّنت هشاشتها انطلاقةُ تمهيديات الديموقراطيين في ولايتَي آيوا ونيوهامبشر، ليحلّ متصدِّر السباق سابقاً في المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي. لم تفهم مؤسّسة «الديموقراطي» أن مزاجاً ما قد بدأ يتبلور في الشارع الذي ضاقَ ذرعاً بسياسات ترامب وكلّ ما يمثّله الأخير، وبات يجد في مرشّحين مِن أمثال بيرني ساندرز أو بيت بوتيدجيدج خياراً مُحتملاً. مزاجٌ قد لا يُشكِّل تحولاً في ما تمثّله الولايات المتحدة لعالم بدأت تخسر هيمنتها فيه، لكنّه يؤسِّس لنقاش حقيقي بين الأميركيين سيشمل في وقت ما الدور وربّما الهوية.هذا باختصار ما يُقلق أحزاب المؤسَّسات. على ذكرِها، تميل إحدى النظريات الشائعة إلى الاعتقاد بأن التماهي بين الرئاسة و«المؤسَّسة» يعني مباركة الأخيرة كلّ قرار اتخذه ويتخذه ترامب، وفي ذلك، إن صحّ، دلالة مهمّة على كون الرئيس الحالي هو رئيس المؤسَّسات. لكن في هذا الاعتقاد مبالغةٌ تجافي الواقع كثيراً، إذ توجد في أميركا مستويات مختلفة من المؤسّسات، مثل مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي)، وهناك المحكمة العليا، الأقوى في العالم، التي باتت تميل كفتها في عهد ترامب إلى المحافظين بعدما عيَّن الرئيس قاضيَين محافظَين لمدى الحياة من أصل ثمانية (ثلاثة منهم مِن غير محافظين)، وصدّق الكونغرس على تثبيتهما. فَتح ترامب حرباً على الأولى رغم كونها مؤسَّسة مستقلّة لا تخضع بأي حال لسلطة الرئيس، على خلفية مطالبته بخفض أكبر لأسعار الفائدة. بالنسبة إلى الثانية، وتوصف بـ«المُفسِّر الأخير للقانون الدستوري» (لها سلطة إبطال أيّ قانون أو قرار لا يتوافق مع الحريات الدستوريّة الأساسية) تجري علاقتها نظريّاً على خير ما يرام مع الرئيس.
المستويات الأخرى، مثل السياسة الخارجية والدفاع، باتت تتطابق عملياً مع رؤى الرئاسة، بعدما استبدل ترامب وزراء وموظفين وإداريين وترك مناصب شاغرة. لمجمع الاستخبارات، وعلى رأسه «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إيه)، قصة أخرى تعبّر عنها العداوة المتجذّرة والاختلاف في الرؤى بينها وبين الرئيس، وما اغتيال جمال خاشقجي إلا مثال. إذاً، التماهي المُطلق أو العداء هما سمتان لهذه العلاقة التي تشكّل قلقاً لمؤسسة الحزب الديموقراطي التقليدية، فهي تخشى من تطوُّر مفهوم «الرئيس الإمبراطوري» إلى مستويات يمكن أن تهدّد «الميزة» الأميركية المطلقة: الديموقراطية!
تصطدم رهاناتٌ «الديموقراطي» بمراجعات هيكلية يرفض الحزب إجراءها


صحيحٌ أن جو بايدن أمضى في السياسة ما يزيد على 35 عاماً، لكن وجوده كمرشّح محتمل مرتبط في المقام الأوّل بكونه شَغَل منصب نائب باراك أوباما لولايتين متتاليتين. لا فكاك لبايدن مِن صفة نائب الرئيس السابق، فهذا جلّ ما يميّزه في المفهوم الشعبي الأميركي. كانت نهاية 2016 تقترب، بعدما أحدث فوز ترامب زلزالاً في واشنطن لا يزال العالم يعيش ارتداداته. في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» أُذيعت في كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام، تحدّث نائب الرئيس، للمرَّة الأولى، عن احتمال ترشُّحه لرئاسيات 2020. كانت أحجية المؤامرة الروسية قد بدأت تتشكَّل في الذهن الديموقراطي، وكذلك «عمالة» ترامب المحتملة للروس التي راودت خيال الحزب الحالم بإزاحة هذا العبء. استخدَم بايدن آخر خطاباته بصفته نائباً لأوباما ليوجِّه تحذيراً بشأن «تهديد» روسيا لأوروبا والولايات المتحدة. متحدثاً أمام «المنتدى الاقتصادي العالمي»، قال إن موسكو كانت في طليعة الجهود الرامية إلى حلّ مجتمع الديموقراطيات باستخدام كل الأدوات المتاحة: «الهدف واضح: انهيار النظام الدولي الليبرالي».
بهذا الخطاب الأميركي «الأصيل»، مهَّد بايدن لجذب الانتباه. حدث ذلك بالفعل، بعدما أطلق حملته الانتخابية باعتبار أنه «يقاتل من أجل روح الأمّة». تصدَّر «الرئيس الأكثر تقدّمية في التاريخ» الأميركي، كما يصف نفسه، على مدى أشهر طويلة، استطلاعات الرأي بين الناخبين الديموقراطيين، وكان حتى وقت قريب يُعدُّ المرشّح الأوفر حظاً في مواجهة ترامب. لكنّ نكستَي آيوا ونيوهامبشر، وحلوله في المرتبتين الرابعة والخامسة، بيّنت أن «الأوفر حظاً» لم يعد كذلك، وأن حملته أمام مخاطر حقيقية قد تخرجه من السباق. بالنسبة إليه، «الأمر لم ينتهِ بعد، لقد بدأنا للتو». كان يسعى إلى إقناع جمهوره بأن الـ8% التي حصل عليها في نيوهامبشر ليست سوى معركة في حرب طويلة، رغم أنها أتت بعد ثمانية أيام من حصوله على أقلّ من 16% في آيوا. لا شكّ في أن الأمر بات مرتبطاً بديناميّات الانتخابات وقدرته على محو هاتين النكستين المتتاليتين، وسط رهانه على الفوز في ولايتَي نيفادا (22 الجاري) وساوث كارولاينا في الـ29، مستفيداً من الدعم القوي الذي سيمنحه إياه السود. رهاناتٌ تصطدم بمراجعات هيكلية يرفض «الديموقراطي» إجراءها، وأبرزها كيفية تعامله مع رئاسة ترامب وصولاً إلى مهرجان عزله الذي أسهم في إضعاف الحزب ومرشّحه «الأوفر حظاً»، وذلك لسببَين: محاولة الظهور بدور الضحية أولاً، ورفض استدعائه مِن قِبَل الديموقراطيين للاستماع إلى إفادته في الكونغرس على خلفية القضية الأوكرانية باعتباره، كما الرئيس الذي جرت محاكمته على خلفيها، طرفاً فيها، ثانياً.
بالعودة إلى المزاج الأميركي، يقول أحد الناخبين: «يريد بايدن أن يعود بنا إلى الوضع الذي كان قائماً قبل عهد ترامب، لكن الوضع لم يكن جيداً بأيّ حالٍ حينها. ساندرز راديكالي بعض الشيء، لكن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحوِّل جذري». وتشير أخرى إلى «تعب الناس من الوضع القائم. ساندرز يساري متطرّف، لكن بدلاً من إخافة الناخبين في الانتخابات قد يعطي ترشيحه واقتراحاته التقدُّمية الطموحة نتيجة تُخالف التوقعات فتتجدّد حماسة الناس».