دمشق | لم تتمزّق خريطة المثقفين السوريين، كما هي حالها اليوم. قبل الحراك بقليل، لن يخطر في بال أحد أن يهجر وليد إخلاصي شوارع حلب ليستقر في الصومال ويتأمل سفن القراصنة بدلاً من حجارة القلعة، أو أن يلجأ فراس السوّاح إلى الصين ليكمل ترجمة «كتاب التاو» في بلاد بوذا، وأن يغادر نزيه أبو عفش عزلته الدمشقية إلى لبنان، ويعبر صالح علماني وعاصم الباشا البحر المتوسط إلى الأندلس. قائمة طويلة لا تنتهي من المهاجرين، بأسماء لامعة، وأخرى ركبت الموجة بمجدافي الشعار والهتاف.
لعلّنا نحتاج إلى عصا خبراء الخرائط كي نحصي الأماكن التي شهدت هجرات عشرات المثقفين السوريين إلى مختلف أصقاع العالم. منفيون أم مهاجرون أم هاربون من الجحيم؟ لا إجابة حاسمة في بلاد تتبادل الخنادق والمتاريس والسهام المسمومة. يصعب استيعاب تحوّلات المشهد، كأن ينافح العلماني عن طائفته، ويدافع القومي عن عشيرته، ويُساجل المفكر ما بعد الحداثي في خصوصية مذهبه. كل ذلك حدث خلال الألف يوم الماضية. شهرزاد الجديدة ليس بوسعها أن تروي كل حكايات الجحيم السوري، إذ وجدت نفسها حيال أضخم وليمة للافتراس الجماعي. هاملت الأمس يصعد سلالم مسرح القباني مغادراً خشبة المسرح إلى إيثاكا متخيّلة بقارب مثقوب وأوهام شكسبيرية، من دون أن يجيب عن سؤال: «كيف تصنع ثورة هناك، بعدما هربت من نارها
هنا؟».
سؤال سوف يبقى معلّقاً في فضاء الاتهامات المتبادلة، والاصطفافات الحادة، ذلك أنّ ثقافة التخوين هي العملة الوطنية الوحيدة التي يتداولها الجميع في بورصة البلد المنهوب. في هذا المقام، علينا أن ننبش أحشاء مواقع الانترنت لمعرفة حجم معارك كسر العظم بين محاربين افتراضيين، معظمهم من وزن الريشة في حلبة الملاكمة، فيما عدّاد الموتى كان يعمل في مكانٍ آخر بطاقته القصوى. كما أننا لن نلتفت بجديّة إلى ورشات العاطلين من العمل والمخيّلة الذين وجدوا ضالتهم في مقاولات صغيرة، على هيئة مواقع الكترونية، وجرائد مناطقية، ومنظمات حقوقية وهمية، وأشرطة سينمائية مصنوعة على عجل، ومراكز بحوث غامضة، وألقاب تسبق أسماءهم على الشاشات، كأن يتحوّل الروائي إلى خبير عسكري، والشاعر المغمور إلى مفكّر، والهارب من الجندية ما قبل الحرب إلى موزّع صكوك غفران وشهادات حسن سلوك.
المسألة أكثر تعقيداً، مما يظنه بعضهم، في بلاد فقدت هيبتها، وأضاعت أختام حضارتها القديمة. وإذا بها تقف في عراء الهمجية، تتناهبها ضباع المهاجرين، ويلتهم ما تبقى منها ثعالب الأنصار بقاموس هجاء ضخم يطال كل الأعناق.
بلاد عارية تجللها عباءة ثقافة الضغينة والثأر وتصفية الحسابات الشخصية، في أكبر عملية إعادة تموضع، وفقاً لأحوال الطقس وجهة مستلم البريد وحجم الجعالة. ينتصر المثقف العلماني للعمامة تارةً، وللخوذة طوراً، تبعاً لمصلحته الطارئة، غير عابئ بما يحتضر حوله وبسببه. هكذا تصدّر المشهد المثقف الطارئ، ممن أغراه الحساء الساخن للثورة، وعسل الذات المتضخّمة، متكئاً على أمجاده في الفايسبوك فقط، فهو يجلب مئات اللايكات بدقائق، مقابل عبارة نارية في هجاء الاستبداد عن بعد، فيما لن يتمكّن مثقف معروف من تحصيل ربع محصول الأول، من قمح الشجاعة وطواحين الهواء. اخترع بعض المثقفين السوريين خلال ثلاث سنوات من الحرب، بلطة حادة لقطع الأشجار العالية بدقائق، استجابة لثقافة الأرض المحروقة، تحت شعار اجتثاث ثقافة الأمس بكل رموزها وأيقوناتها. حتى أنّ أحدهم كتب اعترافاً صريحاً بأنه ندم لزيارة ضريح سعد الله ونوس قبل سنوات، ومن كان يعتز بالتقاطه صورة مع أدونيس في أحد المهرجانات الشعرية، يتفرّغ اليوم لهجاء شاعره المقدّس بذريعة أن أدونيس يدافع عن طغيان السلطة، فيما هو يرتدي البيجاما، ويدير المعارك في الموقع الأزرق، مما وراء البحار، ثم يحصي ضحاياه من الخصوم. لم تتوقّف المعارك عند حدود الشوارع الخلفية للثقافة السورية، بل تجاوزتها إلى الساحات الكبرى. ها هو العلماني صادق جلال العظم يدافع من بلاد غوته عن «مظلومية السنّة» في مواجهة صريحة مع أدونيس ومواقفه المضادة. كما سوف يستهجن بعضهم منح نزيه أبو عفش «جائزة العويس الثقافية» التي كانت في الأمس القريب، بالنسبة لهؤلاء أنفسهم «جائزة نفطية مشبوهة».
رغم هذه الحروب التدميرية التي تستخدم الكيبورد كنوع من السلاح الأبيض، إلا أن دمشق تحاول لملمة جراحها وندوبها ومحنتها الطويلة، بما تبقى من مثقفيها، بعيداً من الثقافة الرسمية التي تشكو في الأصل من فقر دم مزمن.
هكذا، انتشرت مجموعة من الملتقيات الأدبية والمسرحية والموسيقية المستقلة في أحياء دمشق، لإعادة الروح إلى «ورشة الأمل» بين قذيفة وأخرى. ثقافة الحاجز حوّلت أحياء دمشق إلى مربعات متباعدة، فيما ينهمك آخرون بفحص تضاريس الجغرافيا السورية مجدّداً، وينفضون الغبار عن وثائق وخرائط سايكس بيكو لإعادة رسم بلاد، كان ابن جبير قد وصفها يوماً، بأنها «جنّة المشرق»، قبل أن ينسف «لورانس العرب» سكة قطار دمشق، حيفا، الحجاز.
جنّة المشرق أم جنّة البرابرة؟ ثم هل علينا أن ننظر بتبجيل إلى النص الركيك لمجرد وجود دمغة الثورة مع توقيع صاحبه؟ وهل علينا هدم أساس البناء الثقافي الذي لم تطله التشوهات، في غياب الدعائم الصلبة لنصّ اليوم الرخو، أم علينا أن ننتظر قليلاً، ما ستفرزه مطحنة الحرب، خارج عبثية المشهد؟ لعل ما تحتاجه الثقافة السورية، في اللحظة الراهنة، أن تقوم بإزاحة المقاولين الطارئين عن المشهد، هنا وهناك، في الداخل والخارج، وتشذيب حقولها من الأعشاب الضارة التي نبتت في الوقت الضائع، وتفعيل صوت العقل وحده، بوعي خلّاق يعيد رأس المعري المقطوع، وتمثال أبي تمّام إلى مكانهما في الذاكرة، وإلغاء صكوك التخوين والتحريم والعنف اللفظي المتبادل، كي تتنفس المدوّنة السورية هواءً آخر... هواء لم تلوثه الأختام الجاهزة، والهويات المهتزّة، وأجنحة الطواويس.