صدر لنائب رئيس مجلس النواب إيلي فرزلي، أخيراً، كتاب «أجمل التاريخ كان غداً»، يروي سيرة سياسية للحقبة التي رافقها، منذ ما بعد اتّفاق الطائف إلى حين انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.يتحدّث فرزلي عن معايشته ولايات ثلاثة رؤساء للجمهورية، هم إلياس هراوي وإميل لحود وميشال سليمان، وعشرات الشخصيات التي عبرت فيها تجربته، سوريين كغازي كنعان ــ الذي يحوز أوسع تفاصيل في العلاقتَين السياسية والشخصية ــ وعبد الحليم خدّام وبشار الأسد ورستم غزالي، ولبنانيين كميشال عون ونبيه بري ورفيق الحريري وعمر كرامي وأمين الجميّل ووليد جنبلاط وجان عبيد وسمير جعجع وميشال المر وجميل السيد وسعد الحريري وفؤاد السنيورة والمطران أندره حدّاد والسيد حسن نصر الله والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير وبشير الجميل وجوزف سكاف وحسين الحسيني وإلياس حبيقة، ناهيك عن آخرين تحالف معهم أو اشتبك، مقدّماً عصارة تجربته في مقاربة حقبة الطائف، ومطالعة طويلة في تقييمه للعلاقات اللبنانية ــ السورية في مراحل صعودها وهبوطها إلى حين خروج الدور السوري من لبنان، ثم ما تلاه من انقلاب موازين القوى في البلاد. كذلك، يستهلّ فرزلي كتابه بنبذة طويلة عن عائلته في تاريخ لبنان، والمقدّمات السياسية التي أعدّت للحرب اللبنانية التي رافقها كشاهد، قبل أن يُمسي شريكاً في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف.
تنشر «الأخبار»، اليوم، فصلاً من الكتاب في حلقة أولى، على أن تليها غداً حلقة ثانية.

طوال ولايتَي إلياس هراوي، العاديّة والممدَّدة، أدَّت المؤسّسة العسكرية، بعد نجاحها في بناء نفسها، أدواراً شتّى في النزاع الداخلي، كانت فيها «قدوة» وأمثولة سياسية. كان واضحاً أنها تتحضَّر للعهد المقبل. أبعدَت نفسها عن التدخّل في الخلافات السياسية، وانصبَّ اهتمامها على القضايا الاجتماعية، ومنها سلسلة الرتب والرواتب، والتحرُّكات العمالية. ثم راحت بشكل غير منظور، تتغلغلُ في النقابات العمالية التي تقلَّبت مواقفها حيالها تبعاً للظروف: أحياناً معها، وأحياناً مع خصومها. تارةً على الحياد، وطوراً في قلب المواجهة. إلّا أنّ التدخل اشتدّ، بشكل لافت، قبل ثلاثة أشهر من الاستحقاق الرئاسي الذي حمل إميل لحود إلى قصر بعبدا!
في العهد الجديد، كان من الصعوبة بمكان توقُّع تعاون فعّال بين إميل لحود، رئيساً للجمهورية، ورفيق الحريري رئيساً للحكومة. فليس بين الرجلين كيمياء شخصية، وهما على مزاجَين مختلفَين، وينتميان إلى مدارس ومفاهيم متناقضة. فلا قواسم مشتركة بينهما إن في السياسة، أو في أسلوب العمل، أو حتى التفكير والأداء، إضافة إلى خلافاتهما التي تراكمت طوال السنوات «الهراوية» التسع.
عقبات كثيرة اعترضت طريقهما، يُعزى بعضها إلى مديرية الاستخبارات التي عملت بجدٍّ على إرباك رفيق الحريري، فلم يتوانَ هو الآخر عن بذل المستحيل لمنع إناطة أيّ دور مركزي لضباطها البارزين؛ العقيد جميل السيّد مساعد مدير الاستخبارات، كان أحدهم.
في تموز وآب 1998، برزت انقسامات حادَّة بين المسؤولين، وخصوصاً حيال إقرار سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، بالتزامن مع تحرُّك «الاتحاد العمالي العام» مطالباً بتصحيح الأجور. وضع مجلس النواب يده على هذا الملف، لضبطه من التفلُّت خارج القانون. راح الاتّحاد العمالي والمنظمات النقابية يتحرّكون في الشارع، فبدت حكومة رفيق الحريري في حيرة من أمرها لا تعرف كيف تتعامل مع ذلك التحرّك، ولم تكن تأمن استخدام الجيش في قمعه، فكان لا بدّ من أن يستنجد رفيق الحريري بدمشق. قابل أولاً الرئيس السوري، طوال ثلاث ساعات، متمسِّكاً بذريعة عدم تحميل الخزينة اللبنانية أعباء مالية لا طاقة لها على تحمُّلها، وأنّ حكومته ليست وراء الأرقام الكبيرة الجديدة في مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب، بل اللجان النيابية المشتركة هي التي رفعت الأعباء إلى سقف لا يمكنه ــ هو وحكومته ــ الموافقة عليه، فليس بالإمكان تغطية الفارق الكبير في كلفة السلسلة من الميزانية العامة، أو البحث عن مصادر تمويل جديدة. وطرق باب عبد الحليم خدّام، علَّ نائب الرئيس السوري ينزع السلسلة من عنقه، فلبّى تمنِّي صديقه الذي نُسب إليه في صحيفة «النهار»، نقلاً عن «مجموعة من الشخصيات اللبنانية» التقى بها في 12 آب 1998، أنّه يعارض تعديل الأجور ويفضِّل تأجيل بتِّها إلى العهد الجديد بعد أشهر قليلة، محمِّلاً، في الكلام المنسوب إليه، اللجان النيابية المشتركة مسؤولية زيادة أرقام سلسلة الرتب والرواتب والأعباء المترتِّبة عليها، وهو موقف رفيق الحريري نفسه الذي عبَّر عنه لنا فرادى، وفي اجتماعات اللجان النيابية المشتركة. في 13 آب 1998، قال خدام: «على اللبنانيين أن يُدركوا بوضوح كامل أنّ الحلّ لمشاكلهم الاقتصادية الحادّة لا يكون بزيادة عشوائية لرواتب تقود إلى التضخُّم (...) هل يريد البعض من خلال زيادة الإنفاق من دون موارد، أن يصل الدولار إلى عتبة 3000 ليرة أو 5000 ليرة؟». ثمَّ أردف بعبارة أبقاها غامضة لم يُفصح من هو المقصود بها، فساورني شكٌّ بأنه كان يعنيني بالذات: «هناك في لبنان مَن يضعف أمام الميكروفون ويُطربه صوتُه، فيسترسل أكثر مما يكون قد أعدّ نفسه له، ما يؤدي إلى سجالات وردود فعل يدفع ثمنها الشعب اللبناني».
ما كان بوسعي أن أدع تدخُّل عبد الحليم خدام في ما لا يعنيه يمرُّ من غير ردٍّ. ففي يوم نشر الكلام المنسوب إليه، عقدت مؤتمراً صحافياً غايته الردّ على تصريح نائب الرئيس السوري، فقلت فيه: «إنّ ما أعلنه خدام جاء نتيجة إطعامه معلومات خاطئة أدّت إلى استنتاجات غير صحيحة وكلام غير مبرَّر، وهذا ما يُعرف بالفرنسية Intoxication، أي أنّ هناك تسميماً للمعلومات». في الوقت ذاته، لم أُغفل حرصه على الاستقرار والحؤول من دون ارتفاع سقف التجاذبات السياسية «إلى درجة تؤثّر في الاستقرار على كلّ الصعد». فلم أتردَّد في إبراز «الدور السوري واحتضانه الاستقرار الذي هو لازم وواجب وضروري، لأننا لا نزال نعيش في بلد كثُرت فيه التجاذبات، ليس على مستوى الرؤساء فحسب، بل أيضاً عامودياً على مستوى شرائح المجتمع كلّها. تبتدئ صغيرة ثمَّ لا يعود أحد يستطيع وقف تدحرجها عندما تتطوّر وتتّخذ منحى مذهبياً وطائفياً».
اخترت مفرداتي بعناية ودقّة لكي تؤدي المقصود بها، فلا تفتحُ باب الاجتهاد والتفسير الملتبس، وصولاً إلى استغلالها على أنها فعل متعمَّد يتوسَّل الإساءة. لكنّ ذلك حصل على كلِّ حال. دخلت كلمة «إطعام» التي استخدمتها في معجم مفردات اللغة السياسية الرائجة وقتذاك للمرَّة الأولى. كلمة غير مألوفة، أثارت الانتباه، فاعتُبرت تصويباً جريئاً على نائب الرئيس السوري، في مرحلة افتقر كثيرون من السياسيين شجاعة الموقف والكلمة الدالَّة.
أوحى كلام نائب الرئيس السوري بضرورة صرف النظر نهائياً عن سلسلة الرتب والرواتب، وعن العقد الاستثنائي لمجلس النواب في آن معاً. وعاد رئيس الحكومة رفيق الحريري فأكَّد ذلك بعد رجوعه إلى بيروت، بإعلانه من أمام قصر بعبدا رفضه ورئيس الجمهورية إصدار مرسوم العقد الاستثنائي، معارضاً إقرار مشروع القانون بالصيغة التي انتهت إليها اللجان النيابية المشتركة. فكان ذلك إعلاناً صريحاً من إلياس هراوي ورفيق الحريري ليس فقط ضدّ السلسلة، بل ضدّ انتقالها إلى مجلس النواب. رفضُ الرئيسَين حملني ونبيه برّي على انتقاد هذا التلكؤ والإحجام عن ممارسة صلاحية دستورية يحتاج إليها مجلس النواب. ألمحنا إلى احتمال اللجوء إلى عريضة نيابية ملزمة للرئيسَين، بغية إرغامهما على استخدام الصلاحية الدستورية بفتح عقد استثنائي للمجلس. ظهر جليّاً إلى العلن الخلاف بين رئيسَي المجلس والحكومة، على عهدة المجلس في مناقشة سلسلة الرتب والرواتب. نظر نبيه برّي إلى الأمر إلى أبعد من ذلك، فلم يتقبّل تصرُّف إلياس هراوي ورفيق الحريري بتقييد دور المجلس ومنعه من ممارسة صلاحياته. كذلك، أغضبه أن يلوذ رفيق الحريري بدمشق لفرض وجهة نظره. كان الأدهى من ذلك كلّه، ما نُسب إلى رئيس الحكومة قوله إنه لن يوقِّع مرسوم عقد استثنائي إذا أصدره رئيس الجمهورية، ولن يتردّد في منع حكومته من المثول أمام مجلس النواب في حال أصرّت الأغلبية النيابية على عقد استثنائي، وأرغمته ورئيس الجمهورية على إصداره. اشتبهنا من هذا التصرُّف أنّ السلطة التنفيذية، برأسَيها، هراوي والحريري، تنوي مكاسرة مجلس النواب وتحويله إلى شاهد زور. يسمع ويطيع، يبصم ويبيع. وما عزَّز هذه الشبهة حديثٌ صحافي للوزير بهيج طبّارة، أقرب الوزراء لرفيق الحريري، تحدَّث فيه عن «خلل بين السلطتَين الاشتراعية والإجرائية».
قبل أن أعقد مؤتمري الصحافي للردّ على عبد الحليم خدّام، دعاني الرئيس برّي إلى مكتبه ليسألني ما إذا كنت قرأت تصريح وزير العدل بهيج طبارة في الجرائد، وناولني جريدة «السفير» التي نُشر فيها الحديث. قرأت في الجريدة، ثم قرأت في وجه رئيس المجلس، فكأنه يقول لي بأنه من غير الجائز أن نسكت عن هذا الكلام، في وقت كنّا نحن الذين نشكو من تطاول السلطة التنفيذية على دور المجلس النيابي، واستقوائها بالسوريين عند كلّ عقبة.
في تموز وآب 1998، برزت انقسامات حادَّة بين المسؤولين، وخصوصاً حيال إقرار سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، بالتزامن مع تحرُّك «الاتحاد العمالي العام» مطالباً بتصحيح الأجور


أشار وزير العدل، في حديثه الصحافي، إلى أنّ الخلل بين السلطتَين التنفيذية والاشتراعية يكمن في اتّفاق الطائف لجهة «تفرُّس» المجلس النيابي، ليدلَّ على ذلك المكمن، وهو منع رئيس الجمهورية والحكومة من حلّ مجلس النواب. هناك في رأيه يكمن الخلل. وجدت في ذلك التصريح محاولة لتقزيم دور المؤسّسة الأم، فوافقني رئيس المجلس على إعلان موقف حازم منه، في المؤتمر الصحافي، فبعد الردّ على خدّام صوّبت الكلام باتّجاه بهيج طبارة، معتبراً أنّ «مجلس النواب ليس العامود الفقري للنظام السياسي البرلماني الديموقراطي فحسب، بل هو العامود الفقري لتوجُّه النظام الذي لم يتمكّن أحد من النيل والتشكيك في غطائه الاستراتيجي».
وارتدَّ كلامي إلى موضوع رفع سنِّ تقاعد القضاة، الذي كنت اقترحته عليه لدى لقائنا في تعزية رئيس الرهبانية المارونية المريمية العام، بشقيقه في جبيل، لأيام خلَت. حدَّثته عن ظاهرة لمستها، هي انعدام طبقة وسطى من القضاة نجمت عن سني الحرب بين طبقتي قضاة القمة الموشكين على بلوغ سنّ التقاعد والقضاة الجدد القليلي الخبرة، الأمر الذي أدّى إلى نقص فادح في المؤسّسة القضائية. فاقترحت عليه رفع سنّ تقاعد القضاة من 68 عاماً إلى 72 عاماً، يكون القضاة الجدد خلالها قد اكتسبوا مزيداً من الخبرة والثقافة الواسعة. وافقني الوزير في الرأي، وأعدَّ مشروع قانون به. بعد يومين دعاني نبيه برِّي إلى مكتبه، ليقول لي: «وصلني هذا المشروع، وقيل لي إنَّك تؤيِّده». أجبته بالتأكيد: «طبعاً. أنا اقترحته على وزير العدل. لنمشِ به لأن لنا مصلحة في المحافظة على قضاة القمة». ثم سألني: «هل أنت موافق على البند الوارد فيه، القائل بمنح الحكومة صلاحية أن تقرِّر مَن مِن القضاة تمدِّد له ومَن لا تمدِّد؟». أجبته حانقاً: «قطعاً لا. لم أناقشه معه. حكينا في مبدأ رفع سن التقاعد فقط». تبيَّن لنا أنَّ رفيق الحريري وراء الإيعاز إلى بهيج طبارة إدخال هذا البند، كي يتحكّم بالقضاة الذين يمدِّد لهم خدمتهم في السلك، فيُمسون متأثّرين به، مدينين له في استمرارهم في الوظيفة، الأمر الذي يعطِّل دورهم، وبالتالي يعطِّل ما رمت إليه فكرتي في الإفادة من خبرة قضاة القمة، لا استغلالها ووضعها بين أيدي السلطة الإجرائية.
أثارَ كلامي في المؤتمر الصحافي حفيظة رئيس الحكومة رفيق الحريري، الذي كان يقضي إجازة لمدة أسبوع في «سردينيا»، فقام مكتبه الإعلامي في بيروت بإصدار ردٍّ باسمه وتقصَّدني بقوله: «أخرجَ ما في جعبته من بلاغة لفظية ليقول إن الرئيس رفيق الحريري ضلَّل نائب الرئيس السوري الذي انطلت عليه الحيلة فاتّخذ موقفاً مغلوطاً مبنيّاً على معلومات خاطئة». ثم انبرى بيان المكتب الإعلامي إلى الدفاع عن عبد الحليم خدّام بالقول: «إنّ هذا النوع من الكلام غير المدروس يشكِّل خروجاً على أصول اللياقة السياسية في التحدُّث عن نائب الرئيس السوري». استحوذ عليَّ شعور بأن «جوقة» من قارعي الطبول والبوّاقين قد تشكَّلت للتحريض ضدّي واستغلال ما قلتُه في المؤتمر الصحافي، لإيغار صدور المعنيين بالوضع اللبناني في دمشق.
لذلك، لم أتفاجأ عندما انبرى وزير الدفاع محسن دلول، في اليوم ذاته، إلى اتخاذ موقف الدفاع عن عبد الحليم خدّام والدور السوري في لبنان وإيجابياته، قائلاً إنني بكلامي في المؤتمر الصحافي تعمّدت استهداف هذا الدور «كأني به يريد أن يبشِّر بولس بالمسيحية وأبوذر بالإسلام» ــ وهي العبارة التي استخدمتُها في الردّ عليه ــ لأقول في اليوم الثالث من هذا السجال: «إن سياسة استخدام المسؤول السوري في خدمة أهداف شخصية محلّية قد ولَّت، ويجب أن لا تعود».
لم يتعدَّ ما قاله «قنابل دخانية»، فلست بحاجة إلى أن أذكِّره «أنني أحد أساتذة التنظير للدور السوري في لبنان».
في اليوم التالي 16 آب، زارني بعض الأصدقاء المتخوِّفين من تفاقم هذا السجال، فسألني أحدهم: «ما قصَّتك مع أبو جمال؟»، أجبت بهدوء: «لا شيء على الصعيد الشخصي غير المودَّة والتقدير». سأل: «كيف؟» أجبت شارحاً حقيقة الموقف، والمحاولة المتعمَّدة لإقحام دمشق في أمر لبناني داخلي لا يعنيها: «أنا صديق سوريا على رؤوس الأشهاد، وقد راعني أن تُنقل إلى عبد الحليم خدّام معلومات خاطئة غير دقيقة. لا أقبل أن يضعوا في ذمّة دمشق أو يحمِّلوها مسؤولية حرمان 250 ألف موظف، أي مليون إنسان لبناني، عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وأنا العارف والعالِم بأنّ لا علاقة لها بهذا الموضوع. لذلك، استخدمتُ كلمة feeding الإنكليزية، أي «إطعام»، وهي لفظة معرَّبة عن الإنكليزية تُستعمل لتلقيم السلاح في اللغة العسكرية، وأخذت لفظة «تسميم» من الفرنسية لإعطاء المعنى حجمه من الخطورة». سألني آخر: «ألم تحسب حساباً لردِّك عليه؟». أجبته قائلاً: «العلاقة مع عبد الحليم خدّام ترقى إلى عهود طويلة ولم يداخلها شيء سوى الاحترام والتقدير المتبادل. لكن «الجماعة» ضاعوا، فسعوا إلى التلطِّي وراءه. هو بلا شك مدركٌ للواقع، ويتفهَّم الحقائق ويحرص على عدم تشويهها، كما يحرص على وقف الاسترسال في السجال لأن استمراره يُلحق ضرراً فادحاً بشرعية الوجود السوري وجدواه في لبنان، وهو ما لا ترضاه القيادة في دمشق». في ذلك اليوم، أدليتُ بحديث صحافي كرّرت فيه تأكيد الموقف بالقول: «يحاولون التمترس وراء الأستاذ عبد الحليم خدّام لأنهم عاجزون عن مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والزراعية، ويحاولون أن يجعلوا من الواقع القائم مسؤولية سوريّة لحمل دمشق على الدفاع عن هذا الواقع».
استياء عبد الحليم خدام من ردِّ فعلي ترجمه قطع الاتّصال أو التلاقي معي، طوال الأشهر الثلاثة التالية، وغضبُ خدّام في دمشق لاقاه «حرد» غازي كنعان في عنجر. وقد حدث أنّه يوم المؤتمر الصحافي، كنت اتفقت مع غازي كنعان على أن يعرِّج عليَّ في مجلس النواب لكي يصطحبني ونذهب معاً لتمضية نهار في مجمَّع سياحي في طرابلس يملكه محمد علي ديب عواضة، لنمارس رياضة السباحة. في الطريق، وكان هو يقود السيارة، بدأ يتلقى مكالمات هاتفية عن مضمون المؤتمر الصحافي الذي لم أفاتحه به. سألني مستغرِباً: «ماذا فعلت؟»، قلت: «لا شيء يستحق. مجرّد ردود».
أكملنا طريقنا، إلى أن تلقّى في المسبح مكالمة هاتفية من دمشق تعبِّر عن انزعاج المسؤولين من كلامي عن نائب الرئيس السوري. سأل مجدَّداً فشرحت. امتعض ولزم الصمت طوال الساعات المتبقية من النهار من دون أن يحدِّثني، مُظهراً بدوره استياءً مماثلاً، على طريقة «السنكفة»، أو الحرد، عند الأطفال تضامناً مع خدام! كانت تلك فاتحة مقاطعة جديدة.
الحقيقة أنها لم تكن المرة الأولى التي نفترق فيها ونحن على خصام، فمرّات عديدة، وحول قضايا كثيرة، باعدت بيننا الآراء، فكانت تتوقّف اللقاءات، والاتصالات الهاتفية، وكذلك مآدب الغداء والعشاء الدورية أسبوعياً، لتعود المياه، بعد لأي، لتصب في مجراها الطبيعي. وكان غازي كنعان يملك فروسية الاعتذار والرجوع عن الخطأ متى أدركه، انطلاقاً من حاجة أحدنا إلى الآخر، فتجري تسوية الأمر باتّصال هاتفي تارة مني وطوراً منه. طال حرد غازي كنعان، وتمدَّد على مدى ثلاثة أشهر، فأخذت المبادرة. خابرته وقصدته، فتقطَّع الإشكال، وأعدت ربط ما انقطع. قمنا معاً في 8 تشرين الثاني 1998 بزيارة إلى عبد الحليم خدّام في منزله في «بلودان». طوينا صفحة وفتحنا أخرى ولم يأتِ على ذكر ما كان وحدث.


ذلك الجدل السياسي في جوٍّ من الخلاف الداخلي، إن دلَّ على شيء، فعلى وطأة الانقسام والاصطفاف بين القوى، ونحن نقترب من انتخابات الرئاسة في موعدها الدستوري ما بين 23 أيلول و23 تشرين الثاني 1998. فريقنا الذي دعم انتخاب قائد الجيش لثلاث سنوات خلَت وأخفق، بقي هو نفسه: نبيه برّي، وعمر كرامي، وسليمان فرنجيه، وطلال إرسلان، وإلياس سكاف، وأنا، بالتنسيق الفاعل مع مديرية الاستخبارات من خلال جميل السيِّد.
في ذلك الوقت، كان الوضع في البلاد لم يعد يُطاق. الصدام بين السلطة السياسية و«الاتحاد العمالي العام» على أشدِّه، لا سيما بعد محاصرة الجيش مقرَّه واعتقال رئيسه إلياس أبو رزق في الأول من حزيران 1997، بناء على إيعاز سياسي حكومي توسَّل القضاء غطاءً. لم تستطع الحكومة أن تصمد طويلاً في وجه الاتحاد العمالي، فأفرجت عن الأمين العام ياسر نعمة بعد أربعة أيام، وتبعه رئيس الاتحاد في اليوم الثامن.
التطورات التي لاحت من وراء ذلك الاضطراب كانت خطيرة للغاية، لأنَّ حكومة رفيق الحريري أنزلت الجيش ليواجه العمّال وأساتذة المدارس، والفئات الشعبية الفقيرة، في معادلة مقلوبة، لأنّ سمعة الجيش قامت على نصرته لقضايا الناس المحقَّة.
كان «الاتحاد العمالي العام» قد دعا إلى تظاهرة شعبية حاشدة. عشية التظاهرة، كلَّفت الحكومة الجيش حفظ الأمن في البلاد ثلاثة أشهر، وحظرت أيَّ تحرُّك في الشارع لا يُؤذَنُ به أو يُرخَّص له، ومنعت فوق ذلك التظاهر منعاً باتاً.
أضحى الجيش في وسط المواجهة بين الطرفين. اعتقل إلياس أبو رزق وياسر نعمة بتهم ساقها إليهما القضاء هي: «اغتصاب سلطة، وانتحال صفة، وتشويه سمعة لبنان في الخارج»، فأصدر مذكرتَي توقيف وجاهيتين في حقِّهما. تصدَّيت لذاك الصلف السلطوي فوصفته بأنَّه «عيبٌ كَشَفَ أنَّ قرار التوقيف سياسي لا يستند إلى أيِّ مسوِّغ قانوني». وقلت فيه أيضاً إنَّه «تعسُّفٌ أقدمت عليه السلطة السياسية باستغلال القضاء لتسوية حسابات شخصية قديمة مع خصومها».
صعدت النقمة الشعبية فهبطت هيبة المؤسسات السياسية وهزلت. باتت البلاد في خطر حقيقي كأنَّ المؤامرة على الأبواب. لم يكن إلياس أبو رزق على طرف نقيض من مديرية الاستخبارات بل كان متعاوناً معها، ولم يتوخَّ من تحرُّكه توجيه رسالة إلى الجيش، أو افتعال اضطراب أمني، إنما مواجهة علنيّة في الشارع مع حكومة رفيق الحريري بسبب من تدهور الأحوال المعيشية والاجتماعية، ورفضها إقرار سلسلة الرتب والرواتب. الحقيقة أنَّ «الاتّحاد العمالي العام» كان هو المعتدى عليه. فالحكومة، ورئيسها تحديداً، هي التي كانت تتدخّل في شؤون الاتّحاد وتأليب فريق على آخر داخله بغية تقسيمه وإضعافه.
فجأة، وجد العمّال أنفسهم وجهاً لوجه مع الجيش والقضاء في آن معاً، فيما مصدر المشكلة يُقيم في مكان آخر. كان لي حوار مع جميل السيِّد حول الوضع المأزوم في البلاد، محوره البحث عن مخرج قاطع وموثوق للأزمة وإعادة اللُّحمة الاجتماعية من خلال السلطة المناسبة. ومن يعرف جميل السيِّد عن قرب يعرف أنه ممَّن لا يتأخّرون في السعي إلى كلِّ مشروع سلطوي. سألته: «ماذا عسانا أن نفعل لإنقاذ هذا الوضع؟ هل يكون انقلاباً مثلاً. هل من ظرف أنسب من الآن يمكننا فيه استثمار النقمة من خلال حركة يقوم بها الجيش؟». أجاب بلا تردُّد: «يجب أن نحكي مع قائد الجيش». اتصل السيِّد بالعماد إميل لحّود في الحال، واتفقنا على الاجتماع به في الحمّام العسكري في المنارة، مساء اليوم نفسه. فور وصولنا إلى جناحه، كان خارجاً من حوض السباحة في يوم ماطر. أطلعناه على الفكرة القائلة بـ«انقلاب عسكري» أبيض لا تُهرق فيه نقطة دم واحدة. أصغى إلينا بانتباه غير عادي، ثم قال: «لا مانع، شرط أن يوافق الرئيس الأسد على الأمر. من غير الممكن القيام بذلك من دون القوات السورية». تنبَّهت عندئذ إلى أنَّ الرئيس السوري لا ينخرط في مجازفة من هذا النوع محفوفة بالأخطار. ولذلك، توجّهت غداة اليوم التالي باكراً إلى عنجر للاجتماع مع غازي كنعان، وفاتحته في الموضوع، وكنّا منفردين. قدَّمت له عرضاً تمهيدياً عن أحوال البلاد، غاليت في أوصافه أكثر ممّا يحتمل، أو يستحق، قبل أن أدخل في صلب الموضوع بغية حمله على تقبُّله. قلت له: «إن الوضع الداخلي بلغ حالاً بالغة السوء، ناهيك بأن الأمن مهدَّد ونحن نوشك على الانهيار. كذلك حال الاستقرار والخط السياسي برمَّته في خطر، بل من شأنه التأثير على سوريا في حال تفاقمه. لم يعد في الإمكان التخلّص من هذا الوضع الذي نحن فيه سوى بإجراءات حازمة».
ثم أسهبت داخلاً في التفاصيل، وقلت له: «تصوَّر أن العماد إميل لحُّود الذي يشاركنا هذا القلق والهواجس على البلد ومصيره، وامتعاضه ممّا يجري إلى درجة أنه تقبَّل فكرة تنفيذ انقلاب عسكري كحلٍّ حقيقي، فلم يمانع لولا العقبة السورية». قلت أيضاً لغازي كنعان موضِّحاً: «طبعاً أجبته أن حركة كهذه تحظى بتأييد عارم من الرأي العام اللبناني، ولا أظنُّ أنَّ سوريا تعارضها لأن مَن يقوم بها هو الجيش، وهو قائده».
جلس غازي كنعان مسترخياً، ولم يبدِ اهتماماً بما شرحت، ولم يعلِّق عليه، وكأنّي به اعتبره من قبيل الضيق بالأحوال السائدة. فكرَّرت العبارات نفسها وقلت: «إنّ العماد لحُّود سأل عن موقف الرئيس الأسد وإمكان فرض أمر واقع». عندئذ شعر بأن الكلام جدِّي، فأمسك بيدي قائلاً: «روق. على مهلك. أعد كلامك». أعدت الكلام وقصصت عليه ما دار بيني وجميل السيِّد وقائد الجيش. انتفض فجأة وقال حانقاً: «هل تريدون إدخالي أنا وأنتم إلى السجن؟ هل تريدون أن تُعلَّقوا على المشانق؟ توقَّف. بلا ولدنة». وأقفل باب المناقشة في الموضوع.
ثم أضاف: «تذهب فوراً إلى عند العماد لحّود وتقول له إن هذا الأمر لا أساس له من الصحة، وغير وارد على الإطلاق وبتاتاً. انزعوه من رؤوسكم كلياً». قلت مستطرداً: «إذا نجح الانقلاب تكسبون، وإذا أخفق لستم على علم به». ردَّ بعصبيَّة: «بلا هذه الصبيانيات».
في طريق عودتي إلى بيروت لاحقتني مكالماته الهاتفية، واحدة تلو أخرى: «هل وصلت؟ ماذا فعلت؟ ماذا فعل جميل؟». كذلك، خابر جميل السيِّد طالباً منه التخلِّي عن هذه الفكرة. انتهى الأمر عند هذا الحد بأن طواه غازي كنعان فوراً. ربما كانت تلك الفكرة مجرَّد نزوة، لكنّها في صلبها عبَّرت عن إرادة شعبية لم تعد تتحمَّل الصبر على مزيد من الانهيار، ونحن على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية.