دمشق | غسان مسعود يعيش غربة بكل المقاييس، وعباس النوري يرى أن الفنانين السوريين ما زالوا عرضة لحملات التخوين، وباسم ياخور يدعو إلى الحوار. «الأخبار» التقت في دمشق بثلاثة من أبرز الوجوه الفنية السورية. بعد ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة، جردة خسائر وحديث عن الغربة، والعودة، والتهديدات، وتدني الخطاب بين المثقفين، وغياب الحق في الاختلاف.
ما الذي غيّرته الأزمة في غسّان مسعود؟ يجيب بأسف «زادتني الأزمة اقتناعاً بأن ألتزم الصمت، لأنه حين قلنا منذ الأشهر الأولى للأزمة، فليجلس الناس إلى الطاولة على مئتي ضحيّة، قبل أن يجلسوا على مئتي ألف، لم يسمع صوتنا أحد. وأظنّ أنّه حتى هذه اللحظة، ما زال رأينا غير مسموع من كل الأطراف». على المستوى الشخصي، يرى نجم «أشواك ناعمة» أنه بعد مرور ثلاث سنوات على الأزمة، باتت «الحقيقة اليوم هي براعة تلك الآلة الجهنمية (الميديا) في صناعة الحقيقة. ثمة حقيقة تُصنَع، وهي مغايرة لتلك المشتقة من كلمة «حق». اليوم الحقيقة مشتقة من آلة إخبارية تضفي لباساً ملكياً على أجساد مشوّهة». على المستوى الشخصي أيضاً، يقول: «في ما مضى كنت أشكو من مفهوم الاغتراب، لأن الفنان كيان هش وقلق، تجده يشكو الغربة عن وسطه. اليوم بتُّ أشتهي تلك الغربة، غربة ما قبل الأزمة، وأجدها مزحة. ما أعيشه اليوم هو غربة مكتملة بكل المقاييس».
على سيرة الغربة والاغتراب، نال مسعود، كالعديد من نجوم الدراما، نصيبه من التهديدات التي طالته وطالت عائلته، ما دفعه إلى السفر إلى بيروت. لكنّه بقي يتردّد على سوريا وصوّر فيها فيلمه «رسائل الكرز»، ومسلسلين هما «المصابيح الزرق» و«ياسمين عتيق». وبدأ أخيراً تصوير «بواب الريح». يرفض الخوض في تفاصيل هذه التهديدات. يقول «في المحصلة أبعدت أولادي لأننا كفنّانين أهداف سهلة، ليس لدينا سلاح أو مرافقات، ووجوهنا تكشفنا. خلال السنتين الماضيتين، لم أستقر في بلد». هل لديك مخاوف من وجودك في دمشق اليوم؟ يجيب «هناك مثل شعبي يقول «راح الغالي ما أسف ع الرخيص»». بين عمل وآخر، وإقامة متقطّعة في بيروت، كان مسعود مقلّاً في إطلالاته الإعلامية، ووجدَ في الصمت ملاذاً كما شرحَ لـ«الأخبار». يقول: «لم أعد قادراً حتى على إعطاء خبر عمّا أقدمه من أعمال. أغلقت حسابي على فايسبوك بسبب ما رأيته من لغة منحطة في الخطاب بين السوريين. وسائل التواصل الاجتماعي علمتنا الفجور، وهذا غير مقبول، خصوصاً حين يصدر عن سوريين محسوبين على الثقافة والفكر. يبدو ذلك جارحاً جداً، ويساوي الدم». ما السبب في هذا الانحطاط، خصوصاً أنّه يفترض بالفنانين والنخب أداء دور جامع في ظلّ الانقسامات؟ «ومن قال لك إنّ منطق الجمع مقبول؟» يضيف مسعود «ما يُقبَل منك فقط هو منطق القسمة، والانحياز. 24 مليون سوري بما يملكون من حضارة صاروا بين شبّيح وذبّيح، ما هذا الغباء؟». ويختم «لا أحد يريد خطاباً جامعاً. ثم هل السوريون يستحقون هذين التصنيفين المغلقين؟ هل يستحق السوري بعد كل هذا التاريخ أن يكون إمّا أو إمّا؟».
لماذا فشلت الوجوه الفنية في أن تكون شخصيات جامعة، بل إنّها زادت من حدة الانقسام والتحريض؟ يجيب عباس النوري «ليس مطلوباً من الفنّان أن يكون شخصية جامعة. الفنان عمله إشكالي لأنه يشتغل في الشأن العام، لكنه غير سياسي، ولا يصلح لأن يكون كذلك. وإذا حدث، فالأفضل له ترك الفن قبل أن يُطرَدَ من مساحة الصدق والثقافة، شأنه في ذلك شأن كل السياسيين. فهذا يكون من باب الارتزاق، والاستفادة من شيء تحت أهداف معينة مثل الكثير من الفنانين الذين استفادوا من السلطة في عهود الاستقرار، ثم أعلنوا انشقاقهم». ويستدرك «ثم لا يمكن أن نتحدث عن الفنّانين السوريين ونتجاهل دور نقابة الفنانين، بوصفها الشخصية الاعتبارية التي ينبغي لها حماية حق الفنان في اختلافه مع النظام، من دون أن تتبنى مواقف أخرى، وتلزمه بالخضوع للتحقيقات الأمنية والحزبية. حين انتقدت القيادات النقابية بعد الانتخابات الأخيرة، اتُّهمت بكوني غير وطني. نقابة الفنانين تحوّلت إلى مخفر، قائده غير معروف. الكثير من الأسماء الفنية السورية البارزة غادرت البلاد اليوم. كثيرون عليهم خطوط حمراء، بعضهم مطاردون، وآخرون ممنوعون من العمل، وكلهم سوريون وسوريون جداً، ومن حقهم أن يعودوا لأنهم الأقدر في التعبير عن حساسيات الناس. أنا طالبت بإزالة الخطوط الحمراء عن زملائي. طالبت برفع حرمانهم من العمل، بل يفترض أن يتم إعطاؤهم الضوء الأخضر، وأن تفرش لهم السجّادة الحمراء في المطارات. البلد لا ينبغي أن يصادره أحد مهما كان قوياً». ولدى سؤالنا عمّا إذا تعرّض لتهديدات على خلفية آرائه، أجاب «التهديدات حاضرة طوال الوقت، ومن أطراف مختلفة، تحت وطأة حملات التخوين».
بقي عبّاس النوري في دمشق خلال الأزمة، حيث صوّر سبعة أعمال. وهو يعود في موسم 2014 إلى «باب الحارة 6»، كما يصوّر حالياً دوريه في «الغربال» و«ما وراء الوجوه»، فهل فكر في مغادرة دمشق خلال السنوات الماضية؟ أجاب بصراحته المعهودة «لن أكذب أو أزاوِد. لقد فكرت في ذلك، وكنت مدفوعاً بهمّ حماية بيتي وعائلتي، وأولادي، لكنّني لم أصل إلى اتخاذ القرار». وأضاف بلهجته الشاميّة المحبّبة «بس أولاً وأخيراً وباقتناعي الشخصي، ما في مواطن، مو فنان بس، بيطلع برّات البلد إلا بيصير جواتها بشكل أكبر». وختم «الكل خاسر من هذه الأزمة، خسائرنا بالجملة، وهزائمنا بشعة، وسنحصد آثارها لاحقاً».
كمعظم نجوم الدراما، نال باسم ياخور حصّته من التهديدات والتخوين، وبلغت ذروتها على خلفية تجسيده شخصيّة «أبو نبال» في مسلسل «منبر الموتى» الموسم الفائت. غاب باسم عن البلاد لما يزيد على عام، وأشيعَ أنه كان ممنوعاً من دخول سوريا، الأمر الذي نفاه النجم، كما كذّب الشائعات والتصريحات «الملفّقة» على لسانه. عودته أخيراً إلى دمشق لتصوير مشاركاته في «بقعة ضوء 10» اعتبرها البعض نوعاً من تسجيل الموقف إزاء ما يجري. يعلّق ياخور: «موقفي واضح منذ بداية الأزمة. أنا مع شكل الدولة، ولا يوجد بديل منها ومن مؤسساتها في سوريا. وبديلها هو فوضى غير خلاّقة ستودي بالبلاد إلى الهاوية». ويضيف «في النهاية نحن كفنّانين ومثقفين نكتفي بإبداء وجهة نظر، وأحياناً تكون محفوفة بالمخاطر، لأن جزءاً كبيراً من الطرف الآخر الذي يطرح اليوم فكرة الحرّية لسوريا، ويتحدث عن سوريا الجديدة كبلد حر ديمقراطي، لا يتقبّل مجرّد رأي قاله مثقّف أو فنّان. مع احترامي الشديد للمعارضة، لكنّ جزءاً كبيراً منها لم يستطع تقبّل وجهة نظر صادرة عن آخر لم يمسك السلاح أو يقم بإيذائه. واليوم يهدّدوننا بالذبح، والقتل والنسف، فكيف له أن ينفّذ ادّعاءه بسوريا جديدة حرّة؟ فاقد الشيء لا يعطيه. وأنا من الناس الذين تعرّضوا للكثير من التهديدات». إذاً كان غيابك عن الشام بسبب إحساسك بالخطر؟ يجيب: «أحد الأسباب المباشرة لمغادرتي البلاد هو إحساسي بالخطر. نحن عانينا، وما زلنا نعاني بسبب إقامتنا في الخارج. الحياة ليست سهلة هناك، ولدينا مواجعنا اليومية، منها ما هو مادي، واجتماعي. أنا لم ألتقِ بأهلي لأكثر من سنتين». ومن كواليس تصوير «بقعة ضوء10»، ختم ياخور «أنا مع أن يجتمع السوريون مجدداً. لا الموالون ولا المعارضون سيختفون. الحلّ الوحيد هو قبول بعضنا لبعض، رغم المواجع التي حصلت. لا يوجد حل آخر، وإلا فسنواجه التقسيم، ليس بحدود سياسية ربما، بل التقسيم الاجتماعي والطائفي والإقليمي، وهذا أخطر ما يهدد بلدنا».