باستطاعة رئيس المحكمة العسكرية، العميد حسين العبدالله، أن يتذرّع بتطبيق القانون، وهو يطمس سجلّه بالسواد، مخلياً سبيل العميل عامر الفاخوري بمرور الزمن. ولو كان الأمر صحيحاً، أن مرور الزمن ينطبق على جرائم فاخوري، يبقى السؤال، كيف طوّع ابن الخيام نفسه (بمعزلٍ عن باقي أعضاء هيئة القضاة التي عاونته) حتى قَبِل بترك عميل ليمرّ من دون حساب، على جرائم اقترفها في واحدٍ من أقسى المعتقلات الصهيونية، والذي بالمناسبة يحمل اسم مسقط رأس القاضي. ألم يسمع العبدالله يوماً وهو يمضي عطلة نهاية الأسبوع في بلدته، صدى صرخات المعتقلين الجنوبيين وأبناء الخيام، وهي تتردّد في فضاء سهل مرجعيون، مذكّرةً بآلامهم؟حسناً. فعلها العميد، وصدّق الذين يبحثون عن أي ذريعة، دفاعه عن نفسه بحجّة القانون. لكن ماذا لو وجدنا، في أرشيف حسين العبدالله، الحريص على «مرور الزمن»، قضيّةً حكم فيها بنفسه على متّهم قبل عامين، في جريمة وقعت قبل 39 عاماً من صدور الحكم. فأين مرور الزمن يا العبدالله؟

(مروان بوحيدر)

وعلى عكس فاخوري، لم ينظر حسين العبدالله بمرور الزمن ليسقط الملاحقة عن العميل محمود بزي، المعروف بـ«محمود أنيسة»، بجرمي التعامل مع العدوّ الإسرائيلي وقتل ضابطين إيرلنديين في قوات الطوارئ الدولية عام 1979! بل فعل العبدالله، كما يملي الضمير المهني والوطني على أي قاضٍ أن يقوم به، بمحاكمة بزّي في عام 2018، بالسجن خمس سنوات.
فالعميل الشهير في «الشريط الحدودي» المحتل سابقاً، لخدمته كمسؤول أمني في بلدتي عيناثا وكونين الجنوبيتين في ميليشيا العميل سعد حداد، بدأت محاكمته في المحكمة العسكرية أيام العميد خليل إبراهيم، قبل أن يحلّ العبدالله رئيساً للمحكمة، ويصدر بحقّه حكماً بالسجن خمس سنوات، رافضاً الاعتراف بمرور الزمن كسبب لمنع المحاكمة عنه.
وتعدّ قضيّة بزّي مناقضةً تماماً لقضيّة الفاخوري. فالأخير، دافع عنه الأميركيون وأخضعوا الدولة اللبنانية لأجله، فيما رحّلت السلطات الأميركية بزّي إلى لبنان وهو يحمل الجنسية الأميركية، مع علمها بأن مصيره المحاكمة.
في قضيّة فاخوري، تمسّك العبدالله بمرور الزمن، فيما أهمل العميد إبراهيم ومن بعده العبدالله، مرور الزمن في قضية بزّي بالاعتماد على المادة 168 من قانون العقوبات، والتي تعتبر أنّ «مرور الزمن يسقط إذا حال حائل قانوني أو مادي دون تنفيذ العقوبة أو التدبير»، على أساس أن الاحتلال الإسرائيلي يومها حال حائلاً دون توقيفه ومحاسبته.
لم يبقَ في السجن سوى 23 عميلاً، من أصل أكثر من 250 عميلاً أدانهم القضاء منذ عام 2009


وبعد ما حصل لفاخوري، لم يعد محسوماً إن كان السبب في محاكمة بزّي هو عدالة العبدالله ووطنيته وقتها؟ أم متابعة الحكومة الإيرلندية لمن قتل جنودها ومعرفة العبدالله أن لا ضهر يقف خلف بزّي، طالما أن الحكومة الأميركية سلّمته إلى لبنان؟
فالحكومة الإيرلندية بدأت تلاحق القضية منذ عام 2005، إثر توقيف العميل جورج مخّول، الذي أتى خلال التحقيق على ذكر بزي، بوصفه متورطاً في قتل جنود إيرلنديين انتقاماً لشقيقه الذي قتله أحد عناصر قوات الطوارئ أثناء تظاهرة في بلدة الطيري. وتحوّل مخّول شاهداً في القضية في ما بعد. وفور علم الحكومة الإيرلندية بمضمون إفادة مخّول، بدأت باقتفاء أثر بزي، ليتبيّن أنه غادر إسرائيل إلى الولايات المتحدة. حُرّكت القضية هناك، فحقق ضباط من الـ«أف بي آي» وضباط إيرلنديون مع العميل الفار، فاتّهم جنود الاحتلال بتصفية الجنود الإيرلنديين، مدعياً بأنه اعترف أمام وسائل الإعلام بالجريمة حينها، بعد تهديده من سعد حدّاد والعميل الشهير المعروف بالجلبوط. عندها سربت إسرائيل للأميركيين معلومات عن قيام بزّي بدخول الولايات المتحدة بجواز سفر مزوّر، قبل حصوله على الجنسية الأميركية، فما كان من الأميركيين إلّا أن قاموا بترحيله إلى لبنان. ومن هناك، أكملت الحكومة الإيرلندية متابعتها عبر وزارتي الخارجية في دبلن وبيروت، فتحرّك القضاء اللبناني بنشاط لافت.
ألا يستأهل دم اللبنانيين حساباً كما يستأهل دم الإيرلنديين؟ أم أن الجرائم بحقّ اللبنانيين تسقط بمرور الزمن، بينما يبقى حق الآخرين طازجاً ولو بعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف؟ والسؤال هنا ليس للعبدالله وحده، إنما للمنظومة السياسية والقضائية، التي وبموجب تساهلها مع العملاء، لم يبقَ في السجن سوى 23 عميلاً، من أصل أكثر من 250 عميلاً أوقفتهم الأجهزة الأمنية اللبنانية وأدانتهم المحكمة العسكرية منذ عام 2009 حتى اليوم.