في ظل الإفلاس والبحث عن موارد للدولة، كان مستغرباً ألا تتضمّن الخطط الحكومية، الاقتصادية والمالية، ملف المخالفات على الأملاك العامة والمتعدّين عليها، ومن هؤلاء، المخالفون والمتهرّبون من دفع الرسوم والغرامات في ملف المقالع والمرامل والكسّارات.آخر إجراء اتُّخذ في هذا الملف، كان قرار الحكومة نهاية عام ٢٠١٧ تكليف مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش بتحديد الأحجام المستخرجة من هذا القطاع لمحاسبة المخالفين. إلا أن أياً من هذا لم يحصل! القرار نفسه ورد مجدّداً في المادة ٦١ من قانون موازنة عام ٢٠١٩، ولكن من دون أن يصدر المرسوم التطبيقي الخاص بها. ومع أن هناك أكثر من 1500 مستثمر، لم تُعرف يوماً أي أرقام عن إيرادات الخزينة من استيفاء الرسوم والبدلات مقابل الاستثمار في هذا القطاع. ورغم كل المخالفات، إن بالعمل من دون ترخيص (أكثر من 90% من المستثمرين) أو لعدم الالتزام بالتراخيص، لم يرد من وزارة الداخلية والبلديات والمحافظين الى وزارة البيئة، منذ بداية عام 2019، سوى 433 محضر إحالة إلى قوى الأمن الداخلي بخصوص أعمال استخراج ونقل واستثمار مقالع وكسّارات من دون ترخيص. وقد أحالتها الوزارة إلى هيئة القضايا في وزارة العدل لتكليف محام من الدولة لمتابعة الموضوع! وخلال الفترة نفسها، وجّهت وزارة البيئة 24 كتاباً إلى «الداخلية» والبلديات والمحافظين لوقف العمل في حوالى 80 مقلعاً ومحفار رمل وكسّارة تعمل من دون ترخيص قانوني بناءً على شكاوى واردة إلى وزارة البيئة، ووجّهت ثمانية كتب إلى المدّعين العامين البيئيين لوقف العمل فيها. إلا أن حصيلة ذلك كله لم تتعدّ صدور 16 حكماً فقط. بلغت قيمة المبالغ المحكوم بها لمصلحة الخزينة نحو 273 مليون ليرة، في قطاع يجب أن يدرّ مليارات الدولارات! فيما قرّرت النيابات العامة حفظ 7 محاضر.

(هيثم الموسوي)

أكثر من ذلك، لم تقم وزارة البيئة بواجبها في الادعاء على المخالفين، لا بل رد وزير البيئة السابق محمد المشنوق، عام ٢٠١٦، كفالات قيمتها نحو أربعة مليارات ليرة كانت تتعلق بتأهيل مقالع ومرامل لـ ٥٦ مستثمراً مخالفاً ومشوهاً من دون موافقة المجلس الوطني للمقالع، ومن دون ان يستفاد من هذه الكفالات لإعادة التأهيل كما تنص المراسيم ذات الصلة!
وكان مسح أولي أجرته وزارة الداخلية عام 2010 بيّن وجود نحو 1278 مقلعاً. لكن جرى التشكيك في هذا الرقم لأن العدد الأكبر من المحافر والمقالع والكسارات يعمل خارج نطاق المرسوم 8803 (4/10/2002) الذي يرعى تنظيم هذا القطاع. أما المسح الذي نفّذته هيئة الأركان في قيادة الجيش وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، عام 2013، فقد أظهر وجود نحو 147 محفار رمل و189 مقلعاً وكسارة بحص و219 مقلع حجر تزييني، موزّعة في مختلف المناطق (بعضها متوقّف عن العمل)، إضافة إلى أعمال شفط رمول على مجاري بعض الأنهار ومصبّاتها.
غير أن هذه المسوحات تبقى ناقصة بسبب العناوين التضليلية التي يعمل تحتها المستثمرون في هذا القطاع، وتعدّدية المراجع التي تمنح الأذونات (الداخلية والبيئة والمحافظون والبلديات…)، تحت مسمّيات مختلفة مثل: مهل إدارية، استصلاح وإفرازات أراض، نقل ستوكات، نقل ناتج إلى مستودعات، مغاسل رمول، مجابل باطون، مجابل زفت، مناشير صخور، استثمار محافر رمل صناعي، فقاشات، شقّ طرق، رخص بناء، إنشاء برك جبلية…الخ). وهذه كلها تعمل من دون تراخيص من المجلس الوطني للمقالع الذي عقد عام 2019 ستة اجتماعات، كانت حصيلتها قرار بترخيص محفار رمل (عين الجوزة في بعلبك) وثان بترخيص مقلع حجر تزييني (كفرحونة - جزين)، وستة قرارات بترخيص كسارات منفردة (من دون مقلع) لزوم مشاريع إنشائية عامة، ولا سيما في كسروان ودوما، و6 قرارات بترخيص كسارات صغيرة لمؤسسات مصنّفة من دون مقلع. وخلال هذا العام (2020) لم يجتمع المجلس يوماً، بسبب الانشغالات الكثيرة للوزير دميانوس قطار، على ما يبدو.
المرة الأخيرة التي طُرح فيها ملف المقالع والكسارات على مجلس الوزراء كان في 17/9/2019 عندما أقرت الحكومة مشروع تعديل مرسوم 8803/ 2002 مؤجّلة إقرار خريطة المخطط التوجيهي بسبب خلافات على تحديد أو تقاسم مواقع الاستثمار في هذا القطاع. وهو الأمر نفسه الذي أخفقت فيه الحكومات المتعاقبة منذ عام 1982 عندما كُلف أحد المهندسين إعداد المخطط، وصولاً الى إنجاز «دار الهندسة» (عام 1996) دراسة مخطط توجيهي لم يتم الالتزام بها أو احترامها، عن قصد، حتى يبقى هذا القطاع مزراب ذهب للقوى المسيطرة على الدولة العميقة في لبنان والتي لم يستطع أي عهد أو أي حكومة تنظيمه ضمن أطر حماية البيئة وحفظ حقوق الخزينة.
1500 مستثمر 90% منهم يعملون من دون ترخيص أو لا يلتزمون برخصهم


ولطالما أُسقطت اقتراحات بحصر الاستثمار في أملاك الدولة لتسهيل المراقبة ولجعل الخزينة المستفيد الأكبر من هذا القطاع. وكانت الدراسات للمواقع المقترحة للاستثمار بموجب المرسوم 8803 الصادر بتاريخ 7/10/2002 قدّرت مساحة هذه الأراضي بأكثر من 365 ألف كلم2 مربع (في عرسال والطفيل وحورتعلا ورعيت زحلة وقوسايا ودير الغزال وعيتا الفخار )... وهي في معظمها من أملاك الدولة ومشاعاتها أو ملك مصرف لبنان. علماً أن هناك أكثر من 29 ألف عقار تملكها الدولة في منطقة البقاع فقط! وقد اشترط المرسوم أن لا تقلّ مساحة العقار لطالب رخصة المقلع عن 5000 م2. وبالتالي، فإن هذه المساحات يمكن أن تستوعب ما لا يقل عن 8600 استثمار لمقلع وكسارة كبيرة، أي أضعاف الحاجات الوطنية المقدّرة!
لسنوات طويلة، لم يجر تنظيم هذا القطاع حتى لا تذهب عائداته الضخمة من جيوب المنتفعين إلى الخزينة. فضاعت رسوم الاستثمار على الأمتار المربعة والتراخيص والمراقبة وإيجار الأرض (وخصوصاً مع حصر الاستثمار في أملاك الدولة) ورسوم المراقبة والرسوم على الأمتار المكعّبة المستخرجة... كذلك، ضيّعت الخزينة مليارات الدولارات لعدم قيام وزارة البيئة والوزارات المعنية الأخرى بواجباتها لجهة تحصيل حقوق الدولة من هذا القطاع (ولا سيما كلفة التأهيل وكلفة التدهور البيئي وبدل العطل والضرر والجزاء على التأخير في التأهيل والجزاء على العمل من دون تراخيص وفرق الرسوم وتجاوز الأحجام والغرامات على التأخير في دفع الرسوم). وليس أدلّ على الأرباح الخيالية التي يحصّلها المستثمرون من هذا القطاع غير تلك الموثّقة في القرارات القضائية الصادرة عن مجلس شورى الدولة (2005) بتعويض آل فتوش نحو ربع مليار دولار، بعدما بيّن المدعي على الدولة أن أرباحه اليومية (التي خسرها جراء وقف كساراته بشكل تعسّفي) تقارب الـ 250 ألف دولار أميركي!