يُراد لتلك الوجوه أن تختفي تماماً. شاشات العنصرية التي كانت جزءاً من صناعة الوعي الشعبي، مطالبة اليوم بإزالة التجسيدات الساخرة من أبناء الجلد الأسود. لعلّها الخطوة الأسهل للتخلّص من ذنب طويل، إن كان موجوداً، واستبداله بخطاب ملائم للصحوة العرقيّة التي يشهدها العالم اليوم. وصلت التظاهرات بعد مقتل جورج فلويد، إلى الشاشات والميديا في موازاة تأمين خلاص آمن للسود في المجتمع الأميركي وعنصريّته الممنهجة في القضاء والطبابة والتعليم والعمل. أوّل ما أشارت الأصابع إليه كان فيلم «ذهب مع الريح» (1939) للمخرج فيكتور فليمينغ، في دعوات إلى إزالته كليّاً، بوصفه أشهر أفلام هوليوود وأكثرها وضوحاً في تظهير العنصريّة. ترافقت الخطوة مع انقسام حادّ حتى في الأوساط الإفريقيّة الأميركيّة. سحبت منصّة HBO Max الفيلم الكلاسيكي الأسبوع الفائت، لأنه يرسّخ رضى أبناء البشرة السوداء على استعبادهم وخوفهم من التحرّر، فضلاً عن تغاضيه عن أسباب الحرب الأهليّة الأميركية ومنح فترة الزراعة والاستعباد في ولايات الجنوب الأميركي صبغةً رومانسيةً نوستالجيةً. ظلّت هذه السردية الناقصة لسنوات طويلة تشكّل وعي الأميركيين بكلّ أعراقهم عن الحرب. هكذا اقترحت HBO Max بديلاً من قرار إزالة الشريط. قرّرت عرضه مجدّداً مع إضافة مقدّمة نقدية تاريخية للأكاديمية الإفريقية الأميركية في جامعة شيكاغو جاكلين ستيوارت التي أكّدت في مقال كتبته في «سي إن إن» أنّه «ليس علينا تجاهل هذا الفيلم الكلاسيكي». أشارت ستيوارت إلى دور السينما الأساسي في التثقيف حول العنصريّة، مضيفة إن قراءتها النقدية اليوم، قد تبعث الحوارات الوطنية الأكثر صدقاً وفعاليةً حتى الآن حول حياة السود على الشاشة وخارجها.تخفي الحماسة إلى محو الفيلم رغبة ملحّة في دفن التاريخ القاتم، كأنه لم يكن. كما أنها تبقى عالقة في قلق طارئ كتعويض عن عجز تحقيق ذلك فعلياً، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى تقرير التنوّع في هوليوود السنة الماضية. ما زالت الإحصاءات تشير إلى تفوّق البيض في صناعة الأفلام الهوليوودية في السيناريو والإخراج والتمثيل.

من سلسلة «طاقم تمثيل كامل من الملوّنين» للفنان هانك ويليس توماس (2019)

بين سنة 2011 و2017 وصل عدد المخرجين من كل الأعراق إلى 1.3 من أصل 10 مخرجين من البيض بمعظمهم. أما بالنسبة إلى كتّاب الأفلام، فلم يتجاوز عدد كتّاب السيناريو من الأعراق الأخرى في الفترة الزمنية نفسها، الـ 1 من أصل كل 10 كتّاب. العرق وحده لا يحسم الأمر بالطبع، ولا الانفتاح المزيّف على الإنتاجات الأخرى، لا لشيء سوى لأنها أخرى. السؤال نفسه يبقى إشكالياً، لأنه يعنى بأصدق الوثائق التاريخية عن العرقيّة في البلاد. محو الإنتاجات العنصرية لهوليوود يتعمّد بطريقة أو بأخرى تجاهل تاريخ طويل للمجتمع الأسود في أميركا. وهو يتغاضى عن الرحلة الشاقّة التي تتطلّبها إعادة كتابة تاريخ ما، من خلال إسقاط أبرز عناصرها أي المواجهة. ينطبق هذا على توقّف Disney + عن عرض فيلم «أغنية الجنوب» (1946)، فيما لا تزال أجواء الفيلم وأغنياته وشخصيّاته حاضرة في منتجعات ديزني حول العالم. دعوات كهذه تأمل أن يتم التعامل مع الرجل الأسود كما لو أنه سقط لتوّه في أميركا، كمواطن من الدرجة الأولى يتساوى مع أبناء البشرة البيضاء. إنها تغفل عن أن الأمر يتعلّق بصورة ثابتة تناوبت شاشات هوليوود على ترسيخها هي أن «البشرة السوداء هي المدانة، وليست الجريمة نفسها»، وفق توصيف عالم الاجتماع الإفرو أميركي و. إ. ب. دو بويس. إنها أفلام خرجت من الواقع وألهمته بالطريقة نفسها. الممثّلة السوداء هاتي ماكدانيال التي أدّت دور مامي في «ذهب مع الريح» (الدور الذي أثار الجدل) وصفت بإيجاز وبذكاء المسارات الحياتية والسينمائية المعدودة المتاحة أمام السود في ظلّ قانون «جيم كرو». دافعت عن حقّها بالعمل في هوليوود، رغم انتقادات طاولتها من قبل «الجمعيّة الوطنيّة للنهوض بالملوّنين» (NAACP)، قائلة: «أمامي خياران: إما أن أمثّل دور الخادمة في هوليوود فأنال 700 دولار في الأسبوع، أو أن أعمل خادمة وأنال 7 دولارات في الأسبوع». الفارق صفران بين التمثيل والواقع، لكنهما لا يكفيان لتبديل الموقع الاقتصادي الاجتماعي الوحيد المتاح للمرأة السوداء في أميركا حينها، أي العمل في الخدمة المنزلية لدى العائلات البيضاء. أما الظروف التي رافقت العمل، فهي وثيقة عن الفصل العرقي في أميركا وهوليوود على السواء. خلال افتتاحه في مدينة أتلانتا، لم تستطع هاتي الحضور بسبب لون بشرتها. وبالرغم من أنها كانت أوّل إفريقية أميركية تنال «الأوسكار» كممثلة مساعدة (من بين 10 جوائز أوسكار حصدها الفيلم)، فقد منعت من الجلوس مع الممثلين البيض على الطاولة نفسها، وفقاً لتعاليم الفندق الذي احتضن حفلة توزيع الجوائز في مدينة لوس أنجلوس. التصويب على «ذهب مع الريح» وحده، يصرفنا عن لائحة لا تحصى من الأفلام في تاريخ هوليوود الطويل، أوّلها «ولادة أمّة» (1915) للمخرج ديفيد وارك غريفيث. في تصويره للسود، عمد الفيلم إلى استخدام ممثلين بيض، أبرزهم رجل أسود، وهو عبد محرّر يدعى غاس، يطارد الشابة البيضاء فلورا ويدفعها إلى الانتحار بعد محاولة اغتصابها. وفق طرح العمل، تصبح المنظّمة العنصرية «كو كلوكس كلان» (KKK) ضرورة من أجل التصدي لنتائج تحرّر العبيد، حيث يتم ذلك من خلال إعدام غاس المتوحّش. ألهم الفيلم عودة الموجة الثانية للمنظّمة المتطرّفة البيضاء التي فجّرت كنائس السود وأعدمت الرجال وأحرقتهم في الجنوب الأميركي. الرجوع إلى تاريخ القتل العنصري في أميركا يظهر مدى تكرّر هذه الصورة في الواقع، كما في حادثة مقتل الطفل إيميت تيل (14 عاماً) الذي شنق وشوّه، بعدما اتهم بالتحرّش بالمرأة البيضاء كارولين برايانت. لقد انتظرت المرأة عقوداً لكي تعترف بأنها لفّقت تهمة التحرّش عمداً. أما والدة تيل، فقد أصرّت على عرض جثّة ابنها في تابوت مفتوح من أجل أن تبقى حادثة قتله شهادة على الاضطهاد العنصري. في السابق، انبعثت صورة الرجل الأسود المتوحّش مراراً في العلاقة بين المواطنين المتطرّفين البيض والمواطنين السود، لكنها سرعان ما باتت تستخدم لتبرير قتل الشرطة للشبان السود. فالشرطي الذي قتل المراهق الأسود مايكل براون، وصف المواجهة بينهما: «شعرت بأنني صبي في الخامسة من عمره يحاول الإمساك بالمصارع هالك هاغن».
لا ينفصل هذا النقاش عن التساؤلات التي ظهرت مع حركة Black Lives Matter منذ مقتل مايكل براون سنة 2014. وقبلها في الستينيات مع حركة الحقوق المدنية التي انكبّ فنانوها على تحرير صورة السود باستخدام التنميطات نفسها. هل يجب أن يعطى السود مزيداً من التمثيل في السينما ودور النشر والغاليريات الفنية؟ ربّما الأجدى أن تناقش كيفية تمثيل السود ومواجهة تمثيلهم السابق، ولو أن ذلك قد يكون ممراً سهلاً للوقوع في التصنيفات الاختزاليّة، مثلما فعلت «نتفليكس» التي استحدثت قسماً جديداً باسم «بلاك لايفز ماتر». قسم يحوي أفلاماً ومسلسلات إما تحمل توقيع مخرجين سود، أو أنها تتناول القضايا التي تخصّ السود ونضالهم، بعضها أنتج قبل ظهور الحركة النضالية سنة 2014. وضعت المنصّة كل الإنتاجات السوداء في خانة وفق لون الجلد، وحصرتها في سياق مرحلة واحدة من هذا النضال الطويل الذي بدأ مع قدومهم إلى أميركا. إنه تقسيم يقوم، خفية، على وضع سردية مقابل أخرى، السردية البيضاء السائدة مقابل سرديّة تصبح بديلة بمجرّد أنها وضعت في هذا التصنيف.
ألهم فيلم «ولادة أمّة» (1915) عودة الموجة الثانية لمنظّمة «كو كلوكس كلان» (KKK) المتطرّفة ولأعمالها الإرهابية بحقّ السود


على الجانب الآخر من السعي إلى محو التاريخ، هناك ما يتعلّق بقراءة تاريخ ذاتي مليء بالصدمات النفسية بالنسبة إلى السود، وبفهم متقطّع ومرتبك للهوية الجماعية، في أميركا تحديداً التي قدّمت لهم صورة مشوّهة عن أنفسهم. في أغنيتها «أربع نساء» (1966)، تطرح نينا سيمون بديلاً مثالياً لكتابة التاريخ وترميم الوعي الذاتي، انطلاقاً من الصور النمطيّة التي طاردت النسوة السوداوات. تتحدّث الأغنية باسم أربع نساء سوداوات هن: العمّة سارة (تنطلق من شخصية ماما جميما)، وسيفرونيا بجلدها الفاتح نسبيّاً (يشير إلى اغتصاب والدها السيد الأبيض لأمها العاملة لديه)، والمومس سويت ثينغ (تطلق من الصورة النمطية للمرأة السوداء جيزيبيل برغباتها الجنسية الجامحة). أما المرأة الأخيرة فهي بيتشيز، بغضبها وصحوتها التي تزامنت مع حركة الحقوق المدنية في الستينيات. كأن الأغنية تتبع مراحل تطوّر المرأة السوداء، وصولاً إلى لحظة نضوجها مع انخراطها في النضال. وهي بهذا تقرّ بضرورة مواجهة أبناء البشرة السوداء لسنوات الماضي، من أجل تجاوز الصورة التي أسروا فيها.