أزمة البنزين تعود مجدّداً. قدر فرض على اللبنانيين التعايش معه. إن لم ينقطع البنزين، فالمازوت. وإن لم ينقطع المازوت فالقمح. أزمة تنافس أزمة، فيما السلطة تظهر يوماً بعد آخر هشاشتها أكثر. وزارة الطاقة غائبة مهما حاولت ادّعاء عكس ذلك. هي المسؤولة الأولى عن القطاع، وهي التي وعدت اللبنانيين بكسر احتكار المحروقات من عدد من الشركات، قبل أن تتحول إلى محتكر جديد. طوابير السيارات أمام محطات البنزين أصدق من كل الوعود بتأمين هذه المادة مجدّداً. كل طرف يحمّل الطرف الآخر المسؤولية. هل تلام شركات النفط على انقطاع المادة؟ لا شك في أنها واحد من المسؤولين، لكنها شركات تبغي الربح، وبالتالي فإن توقف المبيعات يعني تعرّضها للخسائر. والبنزين ليس كالمازوت. تخزينه لفترة طويلة غير ممكن. الشفافية هي التي يحتاج إليها اللبنانيون. عملياً، الجمارك، تقيس يومياً حجم المخزون. هذه معلومات، إلى جانب حجم التوزيع ووجهته، ليست من أسرار الآلهة. يفترض أن تكون تلك ملك الجميع. وحتى إن لم تكن، على المسؤولين أن يكونوا أكثر حزماً في المراقبة وفي تحديد المسؤوليات. هل المشكلة في التخزين أم في تأخر فتح الاعتمادات؟ وإن كان هذا السبب أم ذاك، ما الذي تفعله السلطة لتجنّب فقدان مادة حيوية، لا يمكن الاستغناء عنها، حتى لو أفتى وزير الاقتصاد يوماً بضرورة اعتماد المواطنين على النقل العام، قبل أن يكتشف أن لا نقل عاماً ولا من يحزنون.بعد أن تقع الواقعة، يتحرك المسؤولون. وكما لو أن البنزين انقطع فجأة من الأسواق، يبدأون بمساعي الحل. الأزمة تركّزت في الجنوب، لكنها طاولت كل المناطق. من تعاقد مع شركات توقفت عن التسليم، عانى من الأزمة أكثر. توفّر المادة يختلف باختلاف المصدر. ليست كل الشركات الـ11 المستوردة للبنزين توقفت عن التسليم. بعضها لا يزال يملك كميات محدودة. لكن إن لم تصل بواخر البنزين سريعاً فإن الأزمة ستتمدّد.
حتى اليوم، كل المعنيين يوجّهون أصابع الاتهام إلى المصارف التي تتأخر في فتح الاعتمادات. الأمر نفسه يتكرر، بالرغم من مرور أشهر على اتباع الآلية التي تسمح بتمويل استيراد المحروقات وفق السعر الرسمي. إن كان فتح الاعتمادات مداورة، فذلك يفترض أن يؤدي إلى ضمان عدم فقدان المادة. البنزين، بخلاف المازوت، يؤمّن إيرادات كبيرة للخزينة. وهذا يعني أن دعم سعر الدولار يتم تعويضه في الضرائب والرسوم. لكن في القطاع، من يؤكد أن تمييزاً يُمارس بين الشركات، فالمحظية تُفتح لها الاعتمادات بطريقة أسهل.
نقيب أصحاب المحطات سامي البراكس يطمئن إلى أن الوضع تحت السيطرة، وخلال أيام ستعود الأمور إلى طبيعتها. رئيس تجمع شركات التوزيع فادي أبو شقرا يؤكد بدوره أن المسألة حُلّت وأن الشحنة الأولى ستصل مساء اليوم. إن لم تتحقق هذه الوعود فإن كارثة ستحل. تجمّع محطات صور يشير إلى أن ٩٥ في المئة من محطات المنطقة خالية من البنزين، محذراً من أن «الوضع لم يعد يطاق وعلى النقابة والشركات الموزّعة القيام بما يتوجّب عليها قبل الذهاب إلى التصعيد الشامل والإضراب». للتجمع سؤال محق: أين المسؤولية من مأساة المحطات وطوابير الناس أمامها؟
المحطات صارت من فئتين: إما أقفلت أبوابها، وإما تقنّن تزويد السيارات بالبنزين.
كلّ المعنيين يوجّهون أصابع الاتهام إلى المصارف التي تتأخّر في فتح الاعتمادات


الأزمة ستحل مجدداً كما جرت العادة، لكنّ أحداً لا يضمن عدم تكرارها كل فترة. تلك هي المشكلة الحقيقية. لا بديل عن القلق، وإن يؤكد أبو شقرا أن رئيس الحكومة يسعى لإنهاء المشكلة سريعاً.
عاملون في القطاع يأخذون القضية إلى بعد آخر. يسألون: هل تلك الأزمات مفتعلة وهدفها التمهيد لإلغاء الدعم من مصرف لبنان من خلال وضع الناس أمام خيارين: إما فقدان المحروقات أو دفع سعره الحقيقي؟ في المازوت، صار الاحتمال أكبر. السعر الرسمي للصفيحة هو ١٦ ألف ليرة، لكنْ محظوظ من يشتريها بهذا السعر. بعدما وصل السعر في السوق السوداء إلى ٣٥ ألفاً، انخفض هذا الأسبوع إلى ما يقارب الـ ٢٥ ألفاً. المستهلكون فقدوا الأمل بأي نوع من الرقابة، وصاروا يتعاملون مع سعر السوق بوصفه السعر الفعلي، أسوة بما يحصل مع الدولار. حتى الآن لا يزال الموقف الرسمي يؤكد استمرار دعم استيراد المحروقات وفقَ سعر ١٥٠٠ ليرة للدولار.



استقرار التغذية بالتيار: حلم بعيد المنال
التغذية بالتيار تحسّنت. لكن التحسّن بالكاد يلاحظ. في بعض مناطق بيروت، ارتفعت التغذية من ساعتين إلى ثماني ساعات فقط. في مناطق أخرى، وصلت إلى ١٤ ساعة. لكن عودة التقنين إلى «طبيعته» لا تزال حلماً بعيد المنال. يحتاج الأمر إلى استقرار في جدول شحنات الفيول وهو ما ليس متوافراً حتى اليوم. منذ أمس، وبعد تفريغ باخرة «ديزل أويل»، عاد معملا دير عمار والزهراني إلى الشبكة بطاقتهما القصوى، أي ارتفع إنتاجهما من ٢٠٠ ميغاواط إلى ٨٥٠ ميغاواط. هذان المعملان هما قاطرة الإنتاج في لبنان، ولذلك ارتفع إجمالي الإنتاج من ٥٠٠ ميغاواط إلى ما يقارب ١٣٠٠ ميغاواط. ما لم يسمح بزيادة الإنتاج أكثر هو تراجع الإنتاج عبر الباخرتين التركيتين وعبر معملَي الزوق والجية الجديدين. فبعدما وصل إنتاج الباخرتين إلى ٣٧٠ ميغاواط الأسبوع الماضي، تراجع أمس إلى ما يقارب ٢٢٥ ميغاواط، بسبب تحسّب إدارة الشركة المشغلة لاحتمال عدم وصول باخرة فيول جديدة في الوقت المحدد. وزارة الطاقة سبق أن أشارت إلى أن باخرة الفيول ستصل بين ٢٨ و٢٩ الشهر الجاري، على أن تليها أخرى بعد عشرة أيام. تلك معلومات لم تظهر في حركة البواخر بعد. لذلك، فإن المخاطرة بالبقاء على مستوى الإنتاج الأقصى تعني أن المخزون الحالي من الفيول لن يكفي لأكثر من ستة أيام، تنضمّ بعدها البواخر إلى المعامل المتوقفة عن العمل (الزوق القديم). وفيما تراجع إنتاج معملَي الجية والزوق الجديدين (ينتجان ١٥٠ ميغاواط من نحو ٢٥٠ ميغاواط) للسبب نفسه، تشير المعلومات إلى أنه بمجرد التأكد من موعد وصول الباخرة سيرتفع الإنتاج في البواخر والجية والزوق (المعامل العاملة على الفيول grade B).
هل يمكن بعدها الاطمئنان إلى استقرار الإنتاج، وبالتالي استقرار التغذية؟ يسارع مصدر معني إلى القول: «استقرار الإنتاج على معدلات الصيف الماضي هدف صعب المنال، طالما أن لا استقرار في موعد وصول بواخر المحروقات».