انتقلت المواجهة الأميركية- الإيرانية فجر الـ20 من أيلول/ سبتمبر 2020، إلى مستوى جديد قد يكون أشد خطورة مما مضى في خلال العامين الماضيين. فبعد أن اعتبرت أن إيران باتت واقعة تحت عقوبات دولية، أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد اعتماد إجراءات جديدة تتناسب مع هذا الواقع. ترفض طهران، ومعها الأطراف الدوليون كافة، هذا الموقف الأميركي، مؤكدة أنه غير قانوني. وفي انتظار معرفة كيف سيترجَم هذا الفصل من الصراع على أرض الواقع، يعدّ عدم الانخراط الدولي في الهجوم الأميركي انتكاسة أخرى لدونالد ترامب في حربه على إيران.
على الرغم من التصاعد المستمر في وتيرة المواجهة الأميركية - الإيرانية على مدار العامين الماضيين، فإن طهران حرصت طوال الفترة المذكورة على أن يبتعد سلوكها في المواجهة عن استفزاز بقيّة الأطراف الدوليين، على رأسهم الدول الأوروبية، إذ كانت الجمهورية الإسلامية تتطلع إلى اصطفاف هذه الأطراف إلى جانبها عندما تصل مواجهتها مع الولايات المتحدة إلى ساحة مجلس الأمن الدولي.
أوّل الاختبارات لفاعلية هذا المسار الذي انتهجته إيران جاء في منتصف الشهر الماضي، عندما قدّمت واشنطن مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يقضي بتمديد حظر السلاح المفروض على إيران، والذي من المقرّر أن ينتهي وفق قرار مجلس الأمن 2231 المُتضمن للاتفاق النووي في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وقد جاءت النتيجة إيجابية لصالح إيران. إذ أخفقت واشنطن في الحصول على التأييد، بعد رفض روسيا والصين وامتناع 13 عضواً آخرين عن التصويت بما فيهم الدول الأوروبية.
فشل واشنطن في تمرير القرار دفعها بعد أسبوع إلى الطلب من مجلس الأمن الدولي تفعيل آلية «سناب باك» الواردة في المادة 11 من القرار الدولي 2231، و التي تعطي الحق لأي دولة مشاركة في الصفقة النووية طلب تفعيلها في حال عدم التزام أي طرف بالاتفاق النووي. وبما أن الولايات المتحدة انسحبت من عضوية الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، فإن مجلس الأمن رفض الطلب الأميركي بناءً على عدم وجود توافق بين أعضائه على أحقية الولايات المتحدة في استخدام هذا البند. وبذلك حصدت إيران ثاني نجاح لها في هذا المسار. لكنها في الوقت نفسه كانت أمام اختبار ثالث، فواشنطن لم تقبل رفض مجلس الأمن لطلبها، وأعلنت في حينه أنها ستعتبر عقوبات الأمم المتحدة التي فُرضت على إيران بين عامي 2006 و 2010 سارية المفعول، مع بدء يوم 20 أيلول/سبتمبر، مستندة في ذلك إلى فقرة في المادة 11 تنص على أنه «إذا لم يُصدر المجلس قراراً جديداً يؤكد استمرار إنهاء العقوبات خلال 30 يوماً، فستدخل العقوبات حيّز التنفيذ».
فجر أمس، انتهت مهلة الثلاثين يوماً، فأعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عودة جميع عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على إيران، مؤكداً أن الأخيرة ملزمة الآن بوقف تخصيب اليورانيوم والأنشطة المتعلقة بالماء الثقيل، إضافة إلى أنها ستبقى تحت حظر تسلح دائم. ودعا بومبيو جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى الالتزام الكامل بهذه العقوبات، مهدداً بعواقب وخيمة إذا فشلت الأمم المتحدة في تنفيذ تلك العقوبات. وكشف بومبيو في هذا الإطار عن إجراءات جديدة ستعلنها بلاده في الأيام المقبلة لتعزيز فرض العقوبات الأممية على إيران ومحاسبة منتهكيها.
كشف بومبيو عن إجراءات جديدة ستعلنها بلاده في الأيام المقبلة لتعزيز فرض العقوبات الأممية


إيران، من جهتها، سارعت عبر مندوبها في الأمم المتحدة إلى تفنيد الإعلان الأميركي، فيما هددت وزارة الخارجية في بيان بـ»الرد بشكل حاسم» على الولايات المتحدة في حال اتخذت بشكل مباشر أو بالتعاون مع حلفائها إجراءات في سياق التهديد الذي أعلنه بومبيو، محمّلة «واشنطن كل العواقب الخطرة الناجمة عن أي إجراء قد يحدث». في الموازاة، كانت الأنظار في طهران تترقب الموقف الأوروبي لأنه المعيار الأهم بالنسبة إليها في تحديد مدى نجاعة أسلوب المواجهة الذي اختارته.
لم يتأخر الموقف الأوروبي كثيراً، إذ أعلن المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة نيكولاس دو ريفيير أن «رفع العقوبات الأممية عن إيران سيبقى مستمراً»، مشدّداً على أن «طهران ستبقى خاضعة للمحاسبة حتى تفي بالتزاماتها». وأضاف أن «فرنسا وألمانيا وبريطانيا ستبقى ملتزمة بتنفيذ كامل الاتفاق النووي»، معتبرًا أن «الاتفاق هو السبيل الوحيد للمضي قدماً في احتواء البرنامج النووي الإيراني». بدوره، قال المنسق لسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية جوزيب بوريل إن «أميركا لا يمكنها إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة»، مشدّدا على «ضرورة الاستمرار في الالتزام برفع تلك العقوبات بموجب الاتفاق النووي، فضلاً عن ضرورة الامتناع عن أي تصعيد في الوضع الحالي». ودعا إلى «الحفاظ على الاتفاق النووي باعتباره ركيزة أساسية في المنظومة العالمية». في وقت لاحق، أصدر وزراء خارجية الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) بياناً، أكدوا فيه أن «أي قرارات أميركية بشأن العقوبات على إيران لن يكون لها أي أثر قانوني».

كذلك، رأت روسيا على لسان مندوبها في الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي أن «أميركا بخطوتها هذه تظهر إصرارها على تقويض القانون الدولي»، داعية بعد ذلك، في بيان لوزارة الخارجية، واشنطن إلى «التوقّف فوراً عن تدمير الاتفاق الانووي وتقويض قرار مجلس الأمن 2231».
الجدير ذكره أن البعض خلال الساعات الماضية كان يترقّب موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لأنه بحسب تقرير لـ»مجموعة الأزمات الدولية»، الخميس الماضي «يستطيع في حالة اقتناعه بشرعية استخدام أميركا لآلية سناب باك أن يشكّل لجنة من الخبراء الدوليين لرصد انتهاكات قرارات العقوبات الأممية التي كانت مفروضة على إيران سابقاً»، كما أنه «يقدّم تقريراً لمجلس الأمن حول تنفيذ القرار 2231 إلى مجلس الأمن كل ستة أشهر، ومن المفترض أن يقدّم التقرير التالي في كانون الأول/ ديسمبر المقبل». هذان السببان وفق توقعات «الأزمات الدولية» قد يدفعان غوتيريش إلى اتخاذ موقف من هذه التطورات، وهو ما حدث بالفعل، إذ أعلن عن «تعذّر اتخاذ أي إجراء لعدم اليقين بشأن تفعيل آلية سناب باك في الاتفاق». إعلان الأمين العام للأمم المتحدة جاء بعد إبلاغه مجلس الأمن السبت أنه «لا يستطيع اتخاذ أي إجراء إزاء إعلان أميركي بإعادة فرض كل عقوبات الأمم المتحدة على إيران نظراً لوجود شك في المسألة». وأوضح في تلك الرسالة أنه «يوجد شك على ما يبدو بشأن ما إذا كانت العملية... قد بدأت بالفعل، وشك في الوقت ذاته بشأن ما إذا كان إنهاء العقوبات لا يزال ساري المفعول»، وزاد: «لا يمكن للأمين العام أن يمضي قدماً وكأن مثل هذا الشك غير موجود».
على خلفية هذه المواقف الدولية المرضية لطهران، خرج الرئيس الإيراني حسن روحاني ليعلن «الهزيمة الثالثة على التوالي لأميركا في مجلس الأمن الدولي»، والمتمثلة بحسب قوله في «فشل واشنطن في إيجاد إجماع عالمي ضد إيران»، متوعداً الولايات المتحدة بـ»الرد الحاسم» إذا «استخدمت بلطجتها في فرض عقوبات رفضتها جميع الدول». كذلك، لم يتغافل روحاني عن الرد على الموقف الفرنسي الذي توعّد إيران بالبقاء تحت المحاسبة حتى تفي بالتزاماتها بالاتفاق النووي، فربط تحقيق هذا المطلب بالتزام الدول الخمس الأعضاء بمقررات الاتفاق. وهذا هو الموقف عينه الذي لا تزال إيران تُعلنه منذ البدء في التحلل من التزامات الاتفاق النووي كرد على الانسحاب الأميركي منه والتلكؤ الأوروبي في تقديم حزمة المحفزات التي تُعوّض اقتصاد طهران عن الأضرار التي ألحقتها به العقوبات الأميركية.
الموقف الرسمي الإيراني المحتفي بالفشل الأميركي في تحقيق إجماع دولي ضد إيران، لا يقابله الاحتفاء ذاته عند أهل الرأي. فالمحللون الإيرانيون، وإن كان بعضهم يعتبر ما تحقق خطوة مهمة، إلا أن آخرين يقيسون مدى الأهمية بالقدرة على التأثير العملي على أرض الواقع. ترى صحيفة «آرمان ملي» الإصلاحية أن «ما يحدث هو مماطلة أوروبية بانتظار الانتخابات الأميركية»، وهذا في رأيها «لا يصب في صالح طهران، لأن أوروبا لن تبقى لها حوافز جادة لمعارضة ترامب في حال فوزه، وفي حال فوز جو بايدن فإنها ستتوقع من إيران الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لكن من دون القبول بالشروط الحالية على المدى القريب، ما سيدفعها إلى زيادة الضغوط على إيران».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا