وفي اليوم «التشريعي» الثاني، في مجلس النواب، أصرّ نوّاب الأمة مرة أخرى على التعاطي بـ«خفّة» مع مطالب الناس المحقّة. هذه الخفّة لا تتبخر، حتى عندما يتعلق الأمر بأشخاص يمكن النواب، أنفسهم، أن يحتاجوا إليهم في ساعة الشدّة. حتى هذه لم تُغيّر شيئاً في «اللامسؤولية» النيابية. الحديث يدور هنا عن متطوعي الدفاع المدني الذين يعملون في الحروب وينقذون المسؤول كما المواطن، في الانفجارات، في الحرائق والكوارث، في الفيضانات وكل الظروف الصعبة.
من لم يسمع بعد بقضية هؤلاء، البالغ عددهم نحو 2000 متطوع، خلال السنوات الماضية؟ من وعد إلى وعد، من تأجيل إلى تأجيل، ومن تخدير إلى آخر كانت «الدولة» تتنكر لتضحيات هؤلاء الذين يضحّون بأنفسهم في أصعب الظروف، من دون إعطائهم أدنى حقوقهم: «التثبيت».
هذه المرّة كنا أمام اقتراح قانون يرمي إلى تنظيم المديرية العامة للدفاع المدني، يتضمن تثبيت المتطوعين، وبالتالي بت القضية التي بُحّت أصوات هؤلاء المتطوعين وهم يطالبون ببتّها. لم يكن يتوقع أن يخرج من بين النواب أو أعضاء الحكومة، الحاضرين في المجلس النيابي، من يعترض على هذا الاقتراح. لكن وزير الداخلية نهاد المشنوق فعلها. طالب باسترداد الاقتراح، إذ يقول إن لديه ملاحظات معينة عليه، علماً بأنه كان أشبع درساً في عهد وزير الداخلية السابق. تصدى النائب نواف الموسوي لطلب المشنوق، مطالباً السير بالاقتراح وإقراره في الجلسة. النائب آلان عون علّق: «لتكن التعديلات جزءاً من النقاش». المتطوعون، بالمناسبة، ليسوا محسوبين على فريق سياسي دون آخر. هم من جميع المناطق والطوائف والميول، وبالتالي لم يأخذ مطلبهم، لا سابقاً ولا حالياً، أي شكل من أشكال «المحسوبية». كانوا وحدهم وما زالوا وحدهم. أخيراً، قرر رئيس مجلس النواب نبيه بري أنه «لحل المشكلة، لدينا الأسبوع المقبل، القانون يبقى على الجدول أسبوعاً، اتفقنا الأربعاء والخميس».
بعد الجلسة، أمس، عقد النائب الموسوي مؤتمراً صحافياً حول هذا الموضوع تحديداً. قال: «يعرف اللبنانيون حجم التضحيات التي قدمها الدفاع المدني ومتطوعوه، وقد كان من بينهم الكثير من الشهداء والجرحى والمصابين جراء العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان، وكانوا يواجهون آثار هذا العدوان في لحظة المعركة بكل شجاعة وبأس واستعداد لتقديم المزيد من التضحيات». في هذه الأثناء كان صوت المتطوع في الدفاع المدني، يوسف الملاح، يدوّي في وسط بيروت أثناء اعتصامه مع زملائه. بكى الملاح، وأبكى معه بعض الحاضرين، وهو يستذكر تضحياته ومخاطرته بنفسه، مع المئات من زملائه، مناشداً «كل الزعماء» إقرار قانون تثبيتهم.
رفع الملاح، أو «الجوكر» كما يُلّقب، كفّيه في وجه الحاضرين. أدارهما نحو الكاميرات ليراهما النواب والوزراء. ذكّرهم بأن يديه وأيدي رفاقه في الدفاع المدني تشهد بكل ما لحق بها من جراح على حقهم. أدّى التحية من على المنبر لمدير الدفاع المدني، وتمنى عليه أن يسامحه لأنه حضر بلا إذن رسمي، آملاً أن يكون المدير يشاهده على الهواء مباشرة.
وفي اليوم الثالث سأسبح في البحر «يمكن السمك أولى بلحمي»



في هذه الأثناء كان الموسوي يكمل مؤتمره الصحافي داخل مجلس النواب. قال: «بلغني أن الإخوة والأصدقاء المتطوعين في الدفاع المدني في حالة غضب واعتصام، لأنه بلغ مسامعهم أن هناك سعياً لاسترداد اقتراح هذا القانون إلى الحكومة. وبالفعل عندما وصلنا، في الجلسة، إلى البند المتعلق بالمديرية العامة للدفاع المدني طلب الوزير نهاد المشنوق استرداد اقتراح القانون، فرفضنا نحن وعدد من الزملاء النواب هذا الطلب، وقلنا إن الحكم استمرار وإن وزارة الداخلية كانت واكبت كل الجلسات التي هدفت إلى إقرار هذا القانون، كذلك شاركت الإدارات المعنية، وبالتالي لم يعد هناك ما يبرر استرداد هذا القانون وإعادته إلى الحكومة لكي يوضع هذا الاقتراح في متاهات الأخذ والرد، وبالتالي يبقى المتطوعون في الانتظار».
بعد هذه التطورات كان المتطوعون في الدفاع المدني، في أكثر من منطقة في لبنان، يعتصمون ويقطعون الطرقات. فعلوها في الروشة والكولا ــ بيروت، في زحلة والهرمل بقاعاً، قبل أن يصل الاحتجاج إلى جونية ــ المعاملتين حيث قطعوا الطريق لبعض الوقت. هؤلاء «تكذب» الدولة عليهم وتماطل في إعطائهم حقهم، منذ سنوات طويلة، وبعضهم مضى على تطوّعه أكثر من 14 عاماً.
لقد انفجروا غضباً أخيراً. كلمات المتطوّع الملاح في وسط بيروت، أمس، كما هي، تنفع لأن تُكرس صرخة لكل مواطن أوجعته هذه الدولة وما زالت توجعه. صرخ الملاح والدمع في عينيه: «نحن اليوم لدينا مطلب محق، هو البند 41 وينص على تثبيت المتطوعين وتوظيفهم. أوجّه كلمتي لرئيس الجمهورية، هؤلاء الشباب حفرت أسماؤهم على لوح من خشب الأرز، بدلاتنا مخيطة بخيطان من شباك الصيادين.
دولة رئيس مجلس النواب، أيدينا عليها دماء زكية من عناقيد الغضب في حرب تموز والتفجيرات الإرهابية. بدي إحكي معك يا شيخ سعد (الحريري). هون على إيدي دم بيّك، ريحتو كل يوم منتعطّر فيها بإيدينا. تعرفون هذه الوجوه أيها النواب، تعرفون كل الشهداء، دماؤهم لا تزال على اليدين. نترككم تحت الفراش وننزل تحت المطر لننقذ الناس، كل الناس. بتنبسط تحت المكيّف ونحن نطفئ الحرائق... أنتم قسّمتمونا. أيها المواطنون كلمة واحدة، أتمنى إذا سحب الاقتراح رقم 41 أن تكونوا آخر من تراه عيناي. سأذهب إلى البحر أول يوم، وسأعتصم على الرمل في اليوم الثاني، وسأنزل إلى الماء في اليوم الثالث، وسأسبح في البحر. يمكن السمك أولى بلحمي.
أيها المدير العام للدفاع المدني، اعذرني إن خرجت من البيت من دون إذنك، ولكنني خرجت مظلوماً، واسمح لي أن أنزل إلى البحر بهذه البدلة الأغلى على قلبي».

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad