«لقد أصبتُ بحزن شديد عندما علمت بوفاة روبرت فيسك. بغيابه، فقدَ عالم الصحافة والمتابعة الجادة لشؤون الشرق الأوسط واحداً من أهم أركانه». هكذا نعى مايكل دي هيغنز، رئيس الجمهوريّة الإيرلنديّة صديقه الشخصي وأحد مواطنيه البارزين، و«ربما أشهر مراسل دوليّ في كل الصحافة البريطانيّة» وفق «نيويورك تايمز» الذي توفي يوم الجمعة الماضي (30 أكتوبر/ تشرين الأول) عن 74 عاماً (مواليد كنت قرب لندن في 1946). وغرّد مايكل مارتن، رئيس الوزراء الإيرلندي، على تويتر قائلاً: «لقد حزنت الليلة لسماع نبأ وفاة الصحافي روبرت فيسك. لقد كان شجاعاً ومستقلاً في تقاريره، مع فهم عميق لتعقيدات تاريخ الشرق الأوسط والسياسة. لقد ساعد العديد من الناس على فهم تلك التعقيدات بشكل أفضل. فليرقد بسلام».وكان فيسك قد أُصيب بسكتة دماغيّة بينما كان في منزله في دبلن ونُقل إلى «مستشفى سانت فنسنت» في العاصمة حيث توفي بعد ذلك بوقت قصير. وأكدت صحيفة «إندبندنت» البريطانيّة التي كان يعمل لديها مراسلاً لشؤون الشرق الأوسط منذ عام 1989 نبأ وفاته. والرّاحل بالفعل كان آخر وأهم الأسماء التي بقيت مع «إندبندنت» بعدما بيعت لثريّ وفقدت وهج البدايات كصوت بديل للصحافة اليمينيّة التي تهيمن على صناعة الأخبار في المملكة المتحدة، وما لبثت بعد انهيار أرقام البيع أن توقفت عن إصدار نسخة ورقيّة، ودخلت في شراكة مع آل سعود. وكان من ثمار هذه الشراكة رخصة استخدام اسم الصحيفة وموادها في موقع أطلق عليه «إندبندنت عربي» يعد من أهم نوافذ بروباغندا المملكة على الإنترنت.
فيسك الذي حصل على جوائز عدة مرموقة عن تغطيته للشرق الأوسط، نجح في تكوين سمعة مهنيّة استثنائيّة من خلال شق طريق مستقلّ له في تغطية الصراعات والحروب في منطقة متوسطة بين الطروحات المؤدلجة يميناً ويساراً. فهو امتلك الشجاعة دائماً ليكون في قلب الحدث، وأن ينخرط في علاقات وحوارات مع الأطراف المتقاتلة مباشرة من دون أن يكتفي بالكتابة من مقر إقامته في الفندق أو من عاصمة مجاورة على عادة المراسلين الأجانب أو ترديد تصريحات الجيوش الرسميّة، ونقل رأي العين من الأرض لكثير من الأحداث العاصفة والدمويّة في أكثر من بقعة ملتهبة من العالم. لكن ذلك تحديداً جلب له الكثير من الانتقادات من مختلف الأطراف، من دون أن ينكر أحد أهميّة ما يكتب.
بدأ فيسك حياته المهنية في صحيفة «صنداي إكسبريس»، قبل أن تستقطبه صحيفة «تايمز» اللندنيّة اليمينيّة للعمل كمراسل لها من بلفاست (إيرلندا الشماليّة) في ذروة أحداث العنف الثوريّ هناك في بداية السبعينيات، ثمّ غطى «ثورة القرنقل» في البرتغال (1974). في عام 1976، انتقل إلى بيروت كمراسل من الشرق الأوسط فغطى لـ «تايمز» - ولاحقاً لـ «اندبندنت» ـــ الحرب الأهلية اللبنانية. وكان من أوائل من كشف عن فظائع صبرا وشاتيلا، إلى جانب تغطيته خمس غزوات إسرائيليّة للبنان، والثورة الإيرانية عام 1979 والحرب الإيرانية-العراقية والغزو السوفياتي لأفغانستان، وحرب الخليج الأولى، وحروب البلقان، والعشرية السوداء في الجزائر وما سمي بالربيع العربي والحرب الأخيرة على سوريّا. وقد وضع كتباً عدة عن إيرلندا والشرق الأوسط لقيت رواجاً شديداً، لا سيما في ترجماتها العربيّة ومنها: «ويلات وطن: لبنان في الحرب» (1990). كما جمع مقالاته عن الشرق الأوسط في «الحرب الكبرى من أجل الحضارة: السيطرة على الشرق الأوسط» (2005). وكان قد حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية «ترينيتي دبلن» في عام 1983.
فضوله الصحافي وحماسه وموقفه السياسي الرماديّ أوقعته أحياناً في شباك دعاية المخابرات الأميركيّة


لكن فضوله الصحافي وحماسه الشديد وموقفه السياسي الرماديّ أوقعته أحياناً في شباك دعاية المخابرات المركزيّة الأميركيّة، فكان من أبرز الصحافيين الذين شاركوا في إطلاق أسطورة زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، وأجرى معه ثلاث مقابلات شخصيّة خلال عقد التسعينيات وكتب يصفه بـ «القائد المحارب المناهض للسوفيات الذي يضع جيشه على طريق السلام»، و«بعظام خده العالية وعينيه الضيقتين وردائه البني الطويل، يبدو السيد بن لادن بكل ما فيه محارب الجبل وأسطورة المجاهدين. يرقص الأطفال أمامه ويعترف الخطباء بحكمته». مع ذلك، فكثيراً ما شكّك في الرّوايات الأميركيّة الرسميّة بشأن حادثة الحادي عشر من سبتمبر، كما العنف الطائفي الذي اندلع في العراق بعد عام 2003، والاتهامات التي وُجهت للنظام السوريّ باستعمال الأسلحة الكيميائيّة في منطقة دوما (2018).
سياسياً، مَوضع فيسك نفسه كنصير للسلام، مكتفياً برماديّة مهنيّة لم تعُد تتسع لها صحف اليوم، ولم يتبنّ أي موقف محدد، إلى درجة أنّه ما صوّت في حياته لأيّ من الأحزاب البريطانيّة. وفي عمله مراسلاً لصحف يمينيّة معروفة بقربها من الدّولة البريطانيّة العميقة، كان ذكياً بما فيه الكفاية لقول نصف الحقيقة: فلا هو يردّد أكاذيب الاستخبارات كما يفعل صحافيون آخرون، ولا هو كتب كل ما كان يعرفه بحكم علاقاته الواسعة بمختلف الأطراف. ولذا نجح في التعايش معها لعقود. على أنّ القارئ الحصيف سيجد دائماً في نصوصه تلميحات تشير إلى ذلك الجانب المسكوت عنه من الحقيقة. وستكون مجمل تقاريره من منطقة الشرق الأوسط كشاهد عيان غربيّ وثائق لا غنى عنها لكلّ من يتصدى لمهمة تاريخها الغارق في النفط والدّماء والقهر والآلام.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا