رام الله | رحل، أمس، بهدوء، رجل الدبلوماسية الفلسطينية، الملقّب «كبير المفاوضين»، صائب عريقات. قضى الرجل بفيروس «كورونا» المستجدّ، بعد أكثر من أسبوعين على إشاعة وفاته. من دون وداع صاخب وكبير كما يحدث للسياسيين من صنفه، ودّع الحياةَ الرجلُ الذي أمضى حياته مفاوضاً، وهو مؤلّف كتاب «الحياة مفاوضات». كان يعتقد أن «كلّ إنسان بطبيعته وذاته مفاوض، ويمكن لأكثر من رجل أن يستيقظ صباحاً من النوم ليقول كلمة صباح الخير بأسلوب مختلف عن رجل آخر، وكلّ أسلوب يحمل دلالات ورسائل ضمنية مختلفة». لم يكن عريقات يوماً من منظّري مشروع المقاومة أو الكفاح المسلّح، بل يرى في السلطة محطة للانتقال إلى تأسيس الدولة. لكن كلّ ما آمن به انهار قبل أن يموت، وخاصة بعدما لم يستطع أن ينكر لنفسه أو للآخرين أن العدو أنهى «أوسلو» والاتفاقات كافة شكلاً ومضموناً. صحيح أن الرجل صار مجرّد شاهد على مرحلة، إذ لم يلمع بريقه سوى في مباحثات التسوية أواسط التسعينيات عندما ظهر وهو يرتدي الكوفية أمام وسائل الإعلام العالمية، لكنه بقي أيقونة من تلك المرحلة التي يذكرها الفلسطينيون بغضب.
صورة لعريقات تعود إلى عام 1999 حين كان متّجهاً للقاء إيهود باراك (أ ف ب )

«أبو علي» أخذ شهرته من المسار التفاوضي الطويل مع حكومات العدو، فضلاً عن ظهوره الدائم مُتحدّثاً بالإنكليزية لوسائل عالمية، باسم «منظمة التحرير»، أو باسم القيادة الفلسطينية. وقد حاز ثقة الرئيس الراحل، ياسر عرفات، في كلّ المواقف، وربطتهما علاقة متينة، ولَقّبه عرفات مازحاً بـ«شيطان أريحا»، كنايةً عن إجادته فنون التفاوض وأساليب المناورة وإدارة الأزمات. والراحل ينحدر من بلدة أبو ديس شرقي القدس المحتلة، وقد وُلد في أريحا عام 1955، إذ انتقلت عائلته للسكن في منزل وَرِثه عن والده في المدينة، حيث أتمّ تعليمه الابتدائي والثانوي، قبل أن يغادر إلى جامعة سان فرانسيسكو الأميركية ليكمل دراسته في العلوم السياسية ويحوز البكالوريوس والماجستير فيها. ثم عمل محاضراً في جامعة النجاح الوطنية في نابلس بين 1979 و1990، لترسله «النجاح» عام 1983 في بعثة لنيل الدكتوراه في «دراسات السلام» في جامعة برادفورد البريطانية.
تقول مصادر مقرّبة من عائلته لـ«الأخبار» إن هناك فصلاً غير مشهور من حياته، وهو أن العدو اعتقله أول مرة عندما كان يبلغ 13 سنة، أي بعد عام واحد من احتلال الضفة عام 1967، بتهمة إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال وخطّ شعارات وطنية على الجدران، مضيفة إنه «تَميّز بشعبية جارفة استثنائية في أريحا منذ شبابه حتى وفاته»، وسببها «اهتمامه بمؤسسات المدينة العامة وتبرعاته السخية لها، إضافة إلى قربه من الناس وتواضعه مع الأهالي، على عكس غالبية مسؤولي السلطة». ربما هذا ما يُفسّر فوزه بمقعد في المجلس التشريعي (البرلمان) لدورتين متتاليتين في 1996 و2005، في حين خسر غالبية مرشحي «فتح» في المحافظات الأخرى خلال 2005، لأن «حماس» اكتسحت بنظام الدوائر الانتخابية (كل مدينة دائرة).
أيضاً، عمل عريقات صحافياً في صحيفة «القدس» المحلية لاثني عشر عاماً، كما تولى رئاسة «لجنة الانتخابات المركزية» الأولى، فضلاً عن أنه أول وزير للحكم المحلي في أول حكومة تُشكّلها السلطة عام 1994 وبقي فيها حتى 2003، ثم تعاقب على حكومات عدة وزيراً لشؤون الإعلام ولشؤون المفاوضات، علماً بأنه كان على ارتباط وثيق بما يتعلّق بالتفاوض، فكان نائب رئيس الوفد الفلسطيني لمؤتمر مدريد في 1991، ثم عُيّن رئيساً لـ«دائرة شؤون المفاوضات» عام 2003. أما في «فتح»، فانتُخب عضواً في اللجنة المركزية للحركة عام 2006، ثم اختير بالتزكية عضواً في «اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير» عام 2009، ولاحقاً تَقلّد أمانة سرّ اللجنة حتى وفاته.
يُحسَب لعريقات تجنيب نفسه رصاص اتّهامات الفساد بعكس مسؤولين كثر في السلطة


اللافت أن الرجل انتهج المفاوضات باكراً قبل مشروع «أوسلو»، إذ دعا إلى حوار بين أكاديميين فلسطينيين وإسرائيليين بداية الثمانينيات، ثم توّج ذلك بتنظيم برنامج للتبادل الأكاديمي، وظلّ مفاوضاً في جميع المحطات بين «منظمة التحرير» والسلطة، وبين حكومات العدو. هكذا، تَمسّك الرجل بالمفاوضات وسيلة وحيدة لإقامة دولة مستقلة على حدود 67 وعاصمتها «القدس الشرقية»، وحدّد سقفه الأعلى بـ«أوسلو» وبالقرارات الأممية لتصير لزوماً كلامياً في تصريحاته كافة، ما أدى إلى السخرية منه شعبياً في مراحل عدة. مع ذلك، أبرزت استطلاعات وتقارير اسمه بين المرشحين البارزين لخلافة عرفات، ثمّ لنيل الثقة بتكليف حكومات على مدد متفرقة، وإن لم يكن له نصيب كبير في ذلك. لكن يُحسَب لعريقات تجنيب نفسه رصاص اتهامات الفساد، بعكس مسؤولين كثيرين في السلطة سواء في عصر عرفات أو ما بعده، إذ تغيب تقريباً أي اتهامات أو تسريبات إعلامية بحقه على خلفية قضايا فساد. كما تخلو سيرته من الخصومات العلنية، وهو يتمتع باحترام لدى الهياكل الحركية الداخلية في «فتح».
وعقب أشهر قليلة من اندلاع انتفاضة الأقصى (2000)، رأى عريقات أن سببها هو إخفاق المفاوضين في إنهاء الاحتلال، وأن العدو لم يلتزم تنفيذ «أوسلو» كاملاً. قال يومذاك: «سئمنا من الاحتلال، والأسابيع الأخيرة جاءت لأن الناس سئموا رؤية صائب عريقات يتحدث عن 34 نقطة لم ينفذها الإسرائيليون، وعلى إسرائيل تسليم 60% من الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية ومناطق بغزة». وبعدها، أمضى حياته متقمصاً دور الضحية عبر الإعلام وشارحاً مظلومية الفلسطينيين للمجتمع الدولي، ومفاوضاً دائماً في وقت اللاانتفاضة!

استقالات لم تتمّ
في منتصف 2003، عقب تعيين محمود عباس أول رئيس وزراء في السلطة، قدم عريقات استقالته من منصبه وزيراً لشؤون المفاوضات من دون إبداء الأسباب، وخاصة أنه لم يُضمّ إلى الوفد الذي قاده «أبو مازن» وحكومته على أساس «خريطة الطريق» الأميركية، حين اشتدّ التوتر بين عرفات وعباس واتهامات الفساد التي طاولت حكومة الأخير. وربط "فتحاويون" استقالة عريقات آنذاك بأنه لا يريد إحداث شرخ وانقسام، أو الاصطفاف إلى جانب طرف على حساب آخر، ثم امتثل لطلب «أبو عمار» بالتراجع عن استقالته. أيضاً، في 2011، وضع استقالته على مكتب عباس عقب «أزمة كشف المستور» وبرنامج «الجزيرة» الذي كشف وثائق مسرّبة للمفاوضات من مكتب عريقات، لكنه تراجع عنها، ولاحقاً اعتقلت مخابرات السلطة موظفاً في المكتب بتهمة التخابر وتسريب الوثائق. المرّة الثالثة التي قدم فيها استقالته كانت في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2013 خلال مفاوضات التسوية مع العدو برعاية أميركية، وقد رفض «أبو مازن» الاستقالة أيضاً.
على عكس التردّد في الاستقالات الثلاث، ختم «أبو علي» المراحل الأخيرة في حياته، موقناً بأنه لا شريك إسرائيلياً للتفاوض، وأن واشنطن «تنحاز إلى الاحتلال مطلقاً ولا جدوى للمفاوضات» برعايتها، لكنه بقي مؤمناً بجدوى المفاوضات بأساليب أخرى دون الولايات المتحدة كمؤتمر دولي مثلاً! وكل هذا يناقض تفاؤلاته و«شطحاته»، إذ قال في 2012: «شعبنا بات أقرب ما يكون إلى تحقيق حلمه بالدولة المستقلة وعاصمتها القدس»، مضيفاً إن قيادة السلطة لديها «خطة استراتيجية متكاملة تبدأ بإنهاء الانقسام». ثم بعد ست سنوات من هذا التصريح المتفائل، وتحديداً في شباط/ فبراير 2018، خرج بتصريحات مثيرة في إطلالة عبر القناة الإسرائيلية الثانية، ليقول: «الرئيس الفعلي للشعب الفلسطيني هو وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، ورئيس الحكومة الفلسطينية هو المنسق بولي مردخاي»، والأخير هو «المنسق السابق لأعمال الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة». وتابع عريقات: «لا أعتقد أن السلطة ستصمد، وهناك فرق بين حلّ السلطة وتسليم المفاتيح، لأنني أعتقد أن المفاتيح لم تكن بيدنا يوماً»، مُرجّحاً زوال السلطة كلياً، والسبب أن «الرئيس أبو مازن لا يمكنه التحرك من رام الله دون أخذ إذن مردخاي وليبرمان».

المواقف الأخيرة
أيقن عريقات أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود: «نحن لا نستجدي السلام من أحد والاحتلال دون كلفة لن يكون، والسلطة بلا سلطة لأن إسرائيل دمرتها». ثم عقب إرهاصات «صفقة القرن» وورشة البحرين، قال: «لم نكلّف ولن نكلّف أي جهة للتفاوض باسم شعبنا. القضية هي قضية عربية إسلامية مسيحية بامتياز، وندرك مصالح كل الدول العربية، ولكن لا نتدخّل بالشأن الداخلي العربي. تصوّر أنني مثلاً أذهب لأتفاوض باسم الإمارات على الجزر الإماراتية التي بيد إيران، ما يكون موقف الإمارات؟». وعن مشروع القرار في الأمم المتحدة لوسم «حماس» بـ«الإرهاب»، قال: «دافعنا باستماتة عن حماس في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإسقاط قرار ربطها بالإرهاب». ثم تغير خطابه تماماً: «إسرائيل تقتل وتدمر منذ عقود طويلة، لكنها لن تحصل على أمن وسلام دون إنهاء احتلالها... وما لم يتم ذلك فهناك مثل شعبي يقول: الذي يعيش بالسيف يموت بالسيف»، وذلك بعد هرولة الإمارات والبحرين نحو التطبيع، هنا، للمرة الأولى، لم يتمالك «عريقات الهادئ والمحاور ذو الحجة» نفسه، بل هاجم الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، وطالبه بالاستقالة. كما وصف التطبيع الأخير بـ«أكبر طعنة مسمومة في ظهر الفلسطينيين».
أما رؤيته لمواجهة «صفقة القرن»، فكتبها على نحو أكثر عمقاً في كتاب صدر الشهر الماضي عن «منتدى التفكير العربي» في لندن، وهي «نقل الشعب الفلسطيني من السلطة إلى الدولة» دون انتظار حل سياسي مع العدو وحتى دون وسيط أميركي. وتتضمن رؤيته سبع ركائز: «تحقيق المصالحة الفلسطينية، ثم اعتماد منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد، وتعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم، وانتخاب مجلس وطني يمثّل كلّ الفلسطينيين دون تمييز، وصندوق الاقتراع هو مرجعية أيّ خلاف، وترسيخ مبدأ تحريم الاقتتال الداخلي، وأخيراً الاستناد إلى الشرعية والقوانين الدولية؛ ومنها قرار عام 2012 الذي ينصّ على الشخصية القانونية لدولة فلسطين».

العائد من الموت... إليه
الرجل «العائد من الموت»، كما وُصف في لقاء شهير مع الإعلامي اللبناني طوني خليفة تحدث فيه عن تجربته خلال عملية زرع رئة في 2017 داخل الولايات المتحدة، لم تُكتَب له النجاة هذه المرّة عقب إعلان إصابته بفيروس كورونا الشهر الماضي. ومع رفضه العلاج في الأردن، على رغم عرض ملكي بذلك، اختار أن يُنقل إلى مستشفى «هداسا عين كارم» الإسرائيلي في القدس المحتلة بعد ثمانية أيام من إصابته، ليرحل على سريره أمس. وعلى رغم انتهاج الراحل المفاوضات طوال حياته، يبقى «العربي أو الفلسطيني الجيد دائماً هو الميت» في نظر الصهيونية. فقد علّق رئيس منظمة «لاهافا»، الحاخام بنتسي غوفشتين، على خبر وفاته بالقول: «فقدان الأشرار حياةٌ لليهود»! أما عضو الكنيست، بتسلائيل سموتريتش، فانتقد تقديم التعازي من مسؤولين إسرائيليين سابقين بوفاة عريقات، قائلاً: «تعبير الإسرائيليين عن حزنهم على مقتل مؤيد للإرهاب ومعادٍ للسامية لا يوصف... الحقيقة أن خسارة الطريق بدأت منذ زمن بعيد عندما عانقوه وهو يواصل لعبة مزدوجة لتأجيج الإرهاب ضد الإسرائيليين».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا