القاهرة | كالعادة، لم يتأخّر التصالح المصري - الإماراتي، خصوصاً أن غضب القاهرة هذه المرّة لم يكن من أصل التطبيع مع إسرائيل أو التحالف معها، بل بسبب الطريقة الإماراتية في العمل، أي الهرولة صوب تل أبيب حصراً وإحراق كلّ المراكب. لكن، بما أن فوز جو بايدن بمنصب رئيس الولايات المتحدة صار أمراً واقعاً، فإن الصعوبات المحتملة أمام القاهرة حملتها على ما تعتقد أنها «ضربة معلّم»، كما تصف مصادر مواكبة، عبر العودة إلى العزف على الملفّ الأثير للإدارات الأميركية المتعاقبة: القضية الفلسطينية؛ إذ إنها الآن ترغب بقيادة عبد الفتاح السيسي في لعب دور الوسيط في التفاوض، لكنها للمرّة الأولى ستتقاسم هذا الدور مع أبو ظبي المتعطّشة إلى نفوذ أكبر في المنطقة، ليس بضخّ الأموال فقط، بل عبر مكانة سياسية تؤمّن لمحمد بن زايد البقاء حاكماً فعلياً للإمارات. صحيح أن السيسي غاب عن لقاء التنسيق الثلاثي الذي جمع ابن زايد وملكَي البحرين والأردن، حمد بن عيسى وعبد الله الثاني، لكنه باستقباله أمس رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أنهى توتراً في العلاقة مع السلطة استمرّ لشهور، وتَعزّز بعد الاتفاقين الإماراتي والبحريني مع تل أبيب، واللذين حظيا بترحيب مصري ومعارضة فلسطينية رسمية انكسرت حدّتها تدريجياً.أما الدور الجديد للإمارات في هذه الوساطة، فيتركّز على الشق الاقتصادي، خاصة أن لدى أبو ظبي القدرة الآن على «ممارسة ضغوط على تل أبيب للاستجابة لطلباتها، سواءً بضخ الأموال إلى السلطة أو حجبها»، تقول المصادر التي تكشف أن مبلغاً من ثلاثة أرقام بانتظار عباس الآن. الفكرة قائمة على أن الاستثمارات الإماراتية المتوقعة لإسرائيل بالمليارات وستنطلق في زمن قياسي، كما أن الأسواق الإماراتية صارت مفتوحة على مصراعيها للإسرائيليين، بصورة لن توفر فرص عمل للمتعطّلين فقط مع دعم كبير لحكومة بنيامين نتنياهو، بل إنها ستوفر بيئة تسعى تل أبيب عبرها إلى خلق «تقارب» بين سكّان الإمارات السبع والإسرائيليين الذين ستكون محظورة الإساءة إليهم بموجب القوانين. هذا يعني من وجهة نظر أرباب التطبيع أنه سيكون لأبو ظبي تأثير في المفاوضات. تضيف المصادر نفسها أن الدولة الخليجية التي تسرّع خطوات التطبيع الكامل استعانت بخبراء في الملف الفلسطيني، ليس من القاهرة فقط، بل من تل أبيب نفسها إلى جانب مراكز أبحاث عالمية، والهدف «تشكيل رؤية إستراتيجية»، علماً بأنها فعلت ذلك قبل شهور من إعلان الاتفاق.
يجري العمل على لقاء رباعي يجمع السيسي وابن زايد وعباس ونتنياهو


في غضون ذلك، تستعد مصر لدور أكبر على حساب الأردن في المفاوضات، على رغم أن السيسي شعر بالتجاهل من إدارة بايدن حتى الآن، ولهذا يسعى إلى فرض نفسه كطرف أساسي في القضية الفلسطينية، ليمنع الإدارة الجديدة للبيت الأبيض من إقصائه، خاصة أن ملفّات عديدة، بينها «المعونة العسكرية» بموجب «اتفاقية كامب ديفيد» إضافة إلى اتفاقات تجارية أخرى، قد تكون مُهدّدة. وترتكز المخاوف المصرية على القلق من إمكان السعي الأميركي إلى استبدال دور إماراتي - أردني بالدور المصري، الأمر الذي ظهرت بوادره في التواصل المباشر بين عبد الله وبايدن قبل أيام، وهي خطوة أشعرت القاهرة بالقلق، ولا سيما أن الرئيس المنتخَب لم يتواصل مع أيّ مسؤول عربي آخر، علناً على الأقلّ. مع ذلك، يراهن «الجنرال» على تنسيق رفيع المستوى بين القاهرة وعمّان في الملف الفلسطيني، ما قد يتطلّب عقد لقاء مشترك بينه وبين الملك الأردني قريباً، في زيارة قصيرة يجري الإعداد لها. لكن النقطة الأهمّ هي أنه فُتحت قنوات الاتصال بين القاهرة وتل أبيب لترتيب استقبال رسمي لنتنياهو في القاهرة قريباً، في زيارة ستكون الأولى من نوعها إلى العاصمة المصرية بعد عشر سنوات، علماً بأنه سُجّلت زيارة غير معلنة لرئيس حكومة العدو إلى شرم الشيخ التقى فيها السيسي منفرداً قبل نحو عامين.
في الوضع الحالي، يناور السيسي في المفاوضات بورقتين أساسيتين: الأولى قدرته على ممارسة الضغوط على عباس فقط، والابتزاز ضدّ «حماس» عبر التهديد بتشديد الخناق على غزة في حال رفض الاستجابة للقاهرة، والثانية تعزيز فكرة علاقاته القوية مع إسرائيل «التي يهدّد الإرهابُ حدودها من سيناء ويعمل الجيش المصري على مواجهته»! من هنا، تبدو أوراق «الضغط» المصرية على إدارة بايدن مهمّة، ولا سيما مع الدعم الإسرائيلي المتوقع من نتنياهو، ليس لأن مصر دولة مهمّة بالنسبة إليه وعلاقته بنظامها الحالي كانت مثمرة جداً، بل أيضاً من جرّاء آفاق التعاون التي تسعى القاهرة إلى فتحها مع تل أبيب قريباً، ومنها الوعد بتحسين صورة التطبيع في الشارع المصري المناهض له.
وبالعودة إلى لقاء عباس - السيسي، يسعى الأول إلى ترتيبات مبكرة «لاستئناف السلام وصياغة موقف عربي موحّد على غرار مبادرة بيروت 2002». وبحسب المصادر، فإن ترتيبات تجري للقاء رباعي يجمع السيسي وابن زايد ونتنياهو و«أبو مازن» في القاهرة، فضلاً عن لقاء أوسع سيضمّ قادة آخرين، منهم ابن عيسى وعبد الله. يحدث ذلك تحت مظلّة «الجامعة العربية» ضمن محاولات لصياغة الموقف الموحّد المذكور، بل تبنّيه خلال القمة المقبلة في آذار/ مارس، بدعم سعودي غير معلن، فيما يُتوقّع أن يستغلّ نتنياهو المشهد من أجل تجاوز الاحتجاجات الداخلية ضدّه، حتى لو لم يتمّ التوصّل إلى أيّ اتفاق.
المفارقة أن كلّ ما يحدث لا يزال حتى الآن محصوراً بين اللاعبين الإقليميين، ولم يحظَ بمباركة أميركية من الإدارة الجديدة التي تكتفي بالمتابعة، بل تتأخر في الردّ على قنوات الاتصال المفتوحة مع أبو ظبي والقاهرة بداعي الانشغال بترتيبات داخلية معقّدة، لكنها تبدي تشجيعها عودة المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا