يزعم المؤرّخون-السايكولوجيون أن لا شيء في عالم الدراما يحدُث بالصدفة. عند هؤلاء الفضوليين الذين يتعاملون مع الأشياء بوصفها وليدة مناخات سايكولوجية اجتماعيّة محددة في لحظة تاريخيّة ما، فإن المسلسلات التلفزيونيّة ـــ مهما حملت من ثيمات ـــ تظلّ في التحليل النهائي نتاج نخبة ما تسيطر على الخطاب الثقافي لمجتمع ما، وتعبيراً بأدوات الفنّ البصري المتلفز عن لاوعيها المؤدلج الذي لا مفرّ للأغلبيّة من شباكه المحكمة، أقلّه لمن لا يجرؤ على التفكير خارج ما يعتبره المجتمع منطق «الحسّ السليم المشترك». هؤلاء مثلاً يعتبرون مسلسل «إكس-فايلز» تعبيراً عن اللّحظة الكلينتونيّة (نسبة إلى الرئيس بيل كلينتون) في تاريخ المجتمع الأميركي المعاصر، فيما «توين بيكس» ابن للمرحلة البوشيّة (جورج بوش الأب)، و«إيست إندرز» حكاية الطبقة الوسطى البريطانيّة في مرحلة ما بعد تاتشر وهكذا.
مشهد من المسلسل

ولعلّ «طهران» المسلسل الإسرائيلي الذي اختارته منصّة «أبل بلس» ليكون فاتحة عروضها من إنتاجات الدراما الأجنبيّة (أي غير الأميركية) يكاد يكون – مع فارق المستوى الفنيّ عن الأمثلة أعلاه – مرآة عاكسة للمجتمع الإسرائيلي المُلتبس في عهد نتنياهو (رئيس الوزراء الحالي) وأشبه برجع صدى لحالة الكذب الإنكاري الذي تحياه النخبة الإسرائيليّة الحاكمة بشأن مكانها في العالم ومبررات وجودها وسلوكها السياسي وتموضعاتها الاستراتيجية. وليس مردّ ذاك قطعاً ارتفاع مستوى تعقيد مسلسل «طهران» الفنيّ، بل ربّما نقيض ذلك تماماً: منتج مفكّك الأوصال، يتوه في مسارات السرد بعد أقل من نصف الحلقات (عددها ثمان) ويفتعل الأحداث والتشويق بلا داع درامي سوى ملء الوقت حصراً. وفوق ذلك كلّه يكتفي بترداد ببغائيّ للبروباغندا الرسمية الإسرائيلية الشديدة السقم (تخيّل نتنياهو يحمل مؤشراً في أحد استعراضاته أمام الأمم المتحدة مع شاشة تظهر المواقع النوويّة في إيران)، ويجتهد ليقدّم استعراضاً مُسرفاً لكل الكليشيهات الغربيّة المسيسة والمجتزأة والمستشرقة عن إيران، رغم أنّه يدّعي بحكم عنوانه المضلل أنّه سيأخذنا في رحلة في حياة وعقل شعب «العدو المركزيّ» للدولة العبريّة.
تتمحور حكاية طهران حول شخصيّة تامار رابينيان (تلعب دورها الممثلة الناشئة نيف سلطان) اليهوديّة من أصل إيراني التي تعمل جاسوسة للموساد متخصّصة في اختراق الأنظمة الإلكترونيّة. يتم إرسالها في مهمّة سريّة إلى طهران نعرف لاحقاً أنها تعطيل أنظمة الرادار الإيرانيّة كي تسمح للطائرات الإسرائيليّة بقصف مواقع التخصيب النووي من دون التعرّض لاستهداف صواريخ الدفاع الجوي. لاحقاً، تتعقد المهمّة من خلال مجموعة أحداث مفتعلة، إذ يكتشف ضابط في استخبارات المطار من خلال استجوابه لمسافريَن إسرائيليين ساذجين استقلّا الطائرة (الأردنيّة) ذاتها التي استخدمتها تامار للتسرّب إلى الأراضي الإيرانيّة أن ثمّة عميلة للموساد نجحت في دخول البلاد، ويتحوّل موضوع مطاردتها والقبض عليها إلى هاجس يستحوذ عليه مهنيّاً وشخصيّاً.
المبالغات تبدأ مبكراً عند صانع المسلسل موشيه زوندر (منتج وكاتب المسلسل الإسرائيلي المزعج «فوضى» الذي يمّجد أعمال قتل الفلسطينيين وقمعهم). إذ يرسم مساراً عجائبيّاً شديد التعرّج لطريقة دخول طهران عبر التحكّم بأجهزة ملاحة طائرة مدنيّة أردنيّة في رحلة لها من عمان إلى نيودلهي وإجبارها على الهبوط الاضطراري في مطار العاصمة الإيرانية ومن ثم قيام تامار بتبادل زي مضيفة إيرانيّة وهويتها مع زيلا التي يُفترض أنها إيرانيّة تعمل في شركة كهرباء العاصمة، وتريد الهروب من بلادها مقابل تمريرها لأكواد عبور النظام الإلكتروني لمكان عملها الذي سنجد لاحقاً أنّه مرتبط لسبب لن نفهمه أبداً بنظام كومبيوتر موقع التخصيب الرئيسي للبرنامج النووي. وهكذا يصبح على المتلقّي أن يكون متسامحاً بقدر شديد مع التفاصيل والانعطافات السخيفة إن هو أراد للحكاية أن تتطوّر. الكليشيهات السلبيّة حول إيران تبدأ بالتساقط علينا منذ ظهور أوّل إيراني في المطار، وتتعمّق خلال رحلة تامار الأولى في تاكسي المطار إلى منزل زيلا عندما تشاهد إعداماً علنياً لأحد الأشقياء الذي يعلّق من رافعة في الهواء... مرحباً بكم في الحياة اليوميّة في ظلّ حكومة الحرس الثوري الإيراني! ولا تنتهي الحلقة إلا ومدير زيلا في شركة الكهرباء يحاول اغتصابها في رواق الشركة. وهنا لا بدّ عندها من التساؤل عن الغاية من المسلسل (حكماً ليس الترفيه) والجمهور الذي يستهدف الوصول إليه. هل هو الجمهور الإسرائيلي المحلي الذي قد يودّ أن يعرف أكثر عن الفاكهة المحرّمة «العدوّ»، لكنّه ليس محتاجاً لمشاهدة ثماني ساعات تلفزيونيّة كي يستمع لذات الهراء عن إيران الذي يسمعه كل ساعة في وسائل الإعلام الإسرائيليّة؟ أم هو الجمهور الأميركي الذي سيجد بوصفه خارج الصراع المباشر إسرائيل-إيران أنّ الدراما الإسرائيلية ليست مقنعة بالمرّة مقارنة بإنتاجات الجاسوسيّة الأميركية والأوروبية؟ أم لعله الجمهور الإيرانيّ في المنفى غالباً؟ إذ لا تسهل مشاهدة المسلسل داخل إيران. لكن هذا الجمهور سيُصاب بالصدمة من الصورة الشديدة السلبيّة وغير الواقعيّة التي يقدّم فيها المعارضون الإيرانيّون بوصفهم مجرّد خونة لبلادهم وأدوات متطوّعة لخدمة الإسرائيلي الذي سيحررهم من الاستبداد والطغيان. أم هو لمخاطبة ذوي القلوب الحساسة من الجانبين عبر نافذة المشترك الإنساني الذي يجمع بين الشعب الإيراني والمستوطنين الإسرائيليين، فيما تتراكم الصور النمطية في المسلسل عن الإيراني - السيئ دائماً - إما كمقاوم لبطولات الموساد، أو كخادم منفّذ لها، متديّن متزمّت أو زنديق متهتك؟ أم هم الهاكرز والجيل الجديد المولع بتجارب اختراقات الأنظمة الذين اعتبروا أن المسلسل مثير للسخريّة في طريقة عرضه لطريقة السيطرة على أنظمة الدّفاع الإيرانية؟ نجحت إسرائيل في مرّات سابقة في تحييد الرادارات وأنظمة الدفاع الجوي في العراق وسوريا لحماية طائراتها أثناء مهمات قصف، لكن ذلك تمّ دائماً بتواطؤ من الشركات المصنّعة فيما تعلّم الإيرانيّون الدرس وصنّعوا تكنولوجيّات الدفاع الجوي الخاصة بهم. من الجليّ أنّ زوندر وفريقه لم يكلّفا نفسيهما عناء التفكير في ذلك كلّه، واكتفيا بتقديم مسلسل يحظى برضى رئيس الوزراء وضيوف زوجته فحسب، بينما خاطر القائمون على منصّة «أبل بلس» بالاستثمار في مسلسل هزيل لأسباب سياسيّة مفهومة، فشركة «أبل» تتمتع تاريخيّاً بعلاقات وثيقة وحميمة مع الكيان الإسرائيلي.
يفشل المسلسل في الإفادة من عديد الفرص الممكنة في مسلسل (إسرائيليّ) عن إيران لطرح قضايا مهمّة بتعمّق أو بما يخالف الرغبة الرسميّة للنخبة الإسرائيليّة الحاكمة مثل تناقض الولاء عند الإسرائيلي في ما يتعلّق بوطنه الأصلي: سواء المهاجرين من إيران أو المغرب أو أثيوبيا أو بولندا أو الهند أو روسيا، لا فرق، أو معنى الهويّة القوميّة في مقابل الهويّة الدينيّة، أو تاريخ وواقع اليهود الإيرانيين، أو خلفيات الهوس الإسرائيلي بالبرنامج النووي الإيراني ــ الذي لم ينتج بعد قنبلة واحدة ــ في موازاة دولة مسخ تمتلك ثالث أو رابع أكبر ترسانة نووية في العالم (200 رأس نووي على الأقل)، أو الدور الأميركي في محاصرة النووي الإيراني، أو حتى موقع النساء في مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي، البطريركي رغم كل شيء. لكنّك لا تجد في «طهران» أي شيء من ذلك، ولا حتى أسرار عمل الموساد الإسرائيلي. وصف منتسبوه العمل بغير الواقعي والمفعم بالأخطاء الإجرائيّة، إذ لا داعي للمخاطرة بعميل لمجرّد اختراق برنامج يمكن الوصول إليه عبر تكنولوجيّات متقدّمة أو حتى عملاء محليين وغير ذلك.
كحشائش تدفع ثمن صراع الفيلة الإقليمي، لا يشير المسلسل إلى العرب ويخرجهم من الصورة تماماً


المسلسل الذي تم تصوير مشاهده الخارجيّة في أثينا – لا تشبه طهران لمن يعرفونها – يطوّر من دون قصد ربّما شخصيّة ضابط الاستخبارات الإيراني فاراز كميلي (يلعب دوره الممثل الأميركي من أصل إيراني شون توب الذي قدّم أداء مقنعاً) الذي كان يمكن أن يكون الشخصيّة المحوريّة للعمل بدلاً من تامار المفتعلة، لكنّ تلك الفرصة ضاعت لأسباب غير مفهومة. مع ذلك، سارع بعض غلاة المتطرفين الصهاينة إلى انتقاد المسلسل بحجّة أنّه يؤنسن موظفي النظام الإيراني، على حد تعبيرهم. وهو أمر دقيق نسبياً، أقلّه مقارنة بالاستصغار الذي تتعامل به المسلسلات الإسرائيلية مع الشخصيات والبلاد العربية.
عربيّاً، كحشائش تدفع ثمن صراع الفيلة الإقليمي، لا يشير المسلسل إلى العرب ويخرجهم من الصورة تماماً باستثناء موضوع الطائرة الأردنيّة وطاقمها في بداية الموسم الذي يكاد يقدّمهم متواطئين مع الإسرائيليين، وهو العهد بالنظام الأردني تاريخياً.
ينتهي الموسم الأوّل بفشل ــ مؤقّت بالطبع ــ للموساد لا شكّ في أنّه سيتعدّل في الموسمين المقبلين اللذين تعاقدت عليهما «أبل بلس»، فيما تَعلق تامار في شوارع طهران الخلفيّة بصحبة عشيقها الإيراني (المُعارض). لكنّ هذه النهاية المفتوحة لن تكون كافية وحدها لإقناع الجمهور بالعودة إلى موسم ثانٍ (وثالث) ما لم يخرج زوندر من فخّ المعالجة السياسية الفجّة ويتعامل مع الشخصيّات بوصفها بشراً يعيشون في ظلال صراع سياسي كبير قد لا يملكون تأثيراً عليه. وهو بحكم تعدد مواسم الـ «فوضى» التي سبق أن قدّمها على «نتفليكس»، لا يبدو قادراً على ذلك بأي شكل. ومن المرجّح ألا يأتي من جهته في المواسم التالية إلا المزيد من قوالب هراء الدّعاية الإسرائيليّة، وكما العادة، برعاية وتمويل الأميركي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا