الحاجة إلى ترشيد الدعم صارت ملحّة. ثمّة شبه إجماع على ذلك، حتى بين المتخاصمين في السياسة والاقتصاد. من يؤمن بأن الدعم هو حق للمواطن، لطالما شكك بأن الدعم، بطبيعته الراهنة، لا يصل إلى مستحقّيه. مئات ملايين الدولارات ذهبت إلى جيوب التجار، من دون أن يُحرّك المعنيّون ساكناً. طرح ذلك شكوكاً بشأن شبكة المستفيدين. هل من تعطّلت «أعماله» في نهب المال العام بالطريقة التقليدية، وجد في لعبة الأسعار المتعددة للدولار ضالّته؟ إن كان في السلّة الغذائية أو في المحروقات، يؤكد عاملون في الاستيراد أن التجار حققوا أرباحاً هائلة من خلال أمرين: تضخيم أسعار المنتجات المستوردة وعدم التصريح عن الحسومات التي يحصلون عليها. على سبيل المثال، لو أراد أحد المستوردين استيراد سلع، مصنّفة في خانة المدعومة، بقيمة ألف دولار، بحسب المستندات المقدمة إلى المصرف الذي يتعامل معه، فهو يدفع مليوناً ونصف مليون ليرة، على أن يتم تحويل الألف دولار إلى الشركة المحددة في الاعتماد.
(هيثم الموسوي)

لكن أحداً لا يتأكد مما إذا كانت الفاتورة المقدّمة مضخّمة أو لا. هناك يمكن أن تكون القيمة الفعلية للفاتورة لا تتجاوز 800 دولار. في هذه الحالة، يحصل التاجر على المئتي دولار في حسابه الخارجي، والتي يضاف إليها حكماً حسم قد يصل في أحيان كثيرة إلى 30 في المئة. هذا يعني ببساطة أن المستورد يمكن أن يحصل على ما يقارب 500 دولار نقداً في الخارج، مقابل دفعه مليوناً ونصف مليون ليرة في الداخل. وهذا يعني أن ربحه المحقق من خلال فتحه اعتماداً مصرفياً بقيمة مليون ونصف مليون ليرة يمكن أن يصل إلى ٤ ملايين ليرة، يضاف إليها الربح الناتج من بيع السلع المستوردة، وربما تضاف إليها أرباح غير مشروعة أخرى من جرّاء إعادة تهريب جزء من هذه السلع إلى الخارج.
حصيلة هذه العملية أن المستهدف بالدعم بالكاد يحصل عليه، على أن تذهب «النصبة الكبرى» إلى المحتكرين وشركائهم، الذين يمكن أن يكونوا موظّفين حكوميين ومصارف وسياسيين.
هذه العملية لا تجري بشكل فردي، بل تحولت إلى سياق منظّم، بحسب مصدر يعمل في الاستيراد والتصدير. ولذلك فإن الجريمة المرتكبة في ظل شح الدولارات في البلد تصلح لتكون جريمة ضد الإنسانية، لكونها تطال لقمة عيش الناس ودواءهم.
«المصلحة» هنا ربما تفسّر عدم قيام أحد بأي خطوة تحدّ من هدر الدولارات، بالرغم من أن خطوات بسيطة كان يمكنها أن تخفض فاتورة الاستيراد أكثر، وبالتالي، الحفاظ على المتوفر من العملات الأجنبية. على سبيل المثال، تضمّنت السلة الغذائية المدعومة أصنافاً ربما لا تخطر في بال المستهلك، حتى في عز البحبوحة. حتى في ما خص الأدوية. لطالما حكي عن أن التوقف عن استيراد الأدوية «البراند» يخفض الفاتورة الدوائية إلى النصف، لكنّ عاماً مرّ من دون أن يتخذ أحد القرار. يتردد كمثال استيراد «البانادول». كلفة دعم هذا المنتج فقط تصل إلى 30 مليون دولار سنوياً، فيما يمكن ببساطة استبداله بالباراسيتامول. على هذا المنوال، يتم التعامل مع الكثير من الأدوية. يكفي أن منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن ما يحتاج إليه أي بلد هو 220 تركيبة دوائية فقط. وبالتالي، فإنه لا جدوى من وجود آلاف الأدوية المتشابهة التي تختلف فقط باسمها التجاري وبسعرها.
مصرف لبنان الذي راسل الحكومة في آب لإعلامها بأنه لم يتبقّ سوى مليارَي دولار يمكن استخدامهما، تعامل مع الأمر على قاعدة اللهمّ إني بلّغت. ظن حينها أنه بذلك يمكن أن يتبرأ من كل الموبقات التي ارتكبت سابقاً والتي أدت إلى هدر ما يصل إلى 40 مليار دولار من أموال الناس، من دون أن يكون للدعم أي علاقة بها (الهندسات المالية، الفوائد السخية لغير المقيمين، تغطية العجز في الميزان التجاري…).
أوحت «صرخة» سلامة أن الدعم يؤدي إلى استنزاف أموال المودعين، وفاته أن يقول إن تلك الأموال سبق أن سرقت عندما كان يدّعي حماية الليرة ويفاخر بأنه حامي الاقتصاد. مع ذلك، أما وقد وقعت الواقعة، فلم يعد من حل سوى توجيه الدعم إلى مستحقيه الفعليين، حتى لو اقتضى الأمر أن تتولى الدولة، في هذه المرحلة الاستثنائية، استيراد المواد والسلع الاستراتيجية.
مرّ كلام سلامة من دون رد فعل يُذكر. عُقد اجتماع في قصر بعبدا، وتلاه اجتماع في السرايا الحكومية لمناقشة الوضع، من دون أن يتم التوصل إلى أي خلاصة. كان واضحاً أن احداً لا يريد تحمّل مسؤولية رفع الدعم. بالنسبة إلى حسّان دياب، بالإمكان استعمال كل الاحتياطي، بما فيه الودائع الإلزامية، لدعم سعر الدولار، وبالنسبة إلى سلامة فإن الودائع الإلزامية لا تمسّ.
عند هذا الخلاف، توقف النقاش في مسألة توجيه الدعم إلى مستحقيه. ثلاثة أشهر منذ رسالة سلامة من دون أي تحضير لمرحلة ما بعد تخفيف الدعم. لا البطاقة التموينية أو التمويلية بُحثت بشكل جدي ولا أجري إحصاء للعائلات المحتاجة إلى الدعم. في الاجتماع الأخير للمجلس المركزي، كان القرار واضحاً برفض تحمّل مسؤولية تخفيض الدعم، على اعتبار أن هذا الأمر هو من مهمات الحكومة. وبالتالي، إذا لم تقرر وجهة الدعم في المستقبل، فإنه لن يكون أمامه سوى الاستمرار على المنوال نفسه، إلى حين نفاد الأموال (سبق أن أعلن سلامة أن الاحتياطي يكفي لشهرين).
40 مليار دولار أهدرها سلامة… ليس الدعم بينها!


يدرك جميع المعنيين أنه في حال الوصول إلى هذه المرحلة، فإن كارثة اجتماعية ضخمة ستحلّ بالبلد. وإذا كان متوقعاً أن يعقد اليوم اجتماع في السرايا الحكومية لمتابعة مسألة الدعم (تمهيداً لعرض الاقتراحات على اللجان النيابية المشتركة)، فإن تخلّي مصرف لبنان عن المسؤولية لا يعكس رغبته الشديدة في تخفيض استهلاك الدولارات التي لديه. في الأساس، ليس تخفيض الدعم هو الغاية بالنسبة إلى سلامة، بل هو الوسيلة للوصول إلى تخفيض الاستيراد. الدولارات التي تخرج من لبنان جزء منها فقط معنيّ بالدعم، فيما الدولارات الأخرى تخرج من الاقتصاد لتمويل واردات أخرى. وبالرغم من انخفاض الاستيراد بنسبة 50 في المئة، إلا أنه يطمح إلى تخفيضه أكثر. وذلك لا يتحقق عملياً إلا من خلال ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية للبنانيين. فمن يستهلك فعلاً هم غير الأثرياء (الطبقة الوسطى والفقراء)، وهؤلاء قدرتهم الشرائية لن تبقى على حالها إن ارتفع ثمن صفيحة البنزين، على سبيل المثال، من 25 إلى 75 ألفاً. ذلك سيقود إلى تخفيض الاستهلاك للكماليات أو حتى لبعض السلع التي اعتاد الناس شراءها، بما سيؤدي لاحقاً إلى عدم استيرادها لانخفاض الطلب عليها.
بعدما كان العجز في الميزان التجاري قد وصل إلى 16 مليار دولار في عام 2018، انخفض هذا العام بشكل كبير من جراء انخفاض الواردات نحو 50 في المئة، لكن سلامة يأمل أن يزيد الانخفاض أكثر، بما يؤدي إلى تخفيض واضح في عجز ميزان المدفوعات. وهذا كان يفترض أن يكون أولوية منذ عام، لكن بفضل الإصرار على ترك الأزمة تتمدد، استمر الطلب على الدولار مرتفعاً، واستمر الاستيراد مباحاً من دون أي قيود، فكان بديهياً أن يرتفع سعر الدولار وتنهار الليرة. وصول سعر صرف الدولار إلى عشرة آلاف ليرة كان منطقياً، وربما متعمداً، في هذه الحالة، لكن بعد وقف الدعم، سيكون من الصعب ضبط الارتفاعات الإضافية، ما سيشكل عملياً كارثة يصعب على سلامة أو غيره توقع نتائجها. ولذلك، لم يعد أمامه سوى كبح جماح ارتفاع سعر الصرف وهو ما لن يتحقق إلا بتخفيف الاستيراد، لكن بالطريقة الأصعب والأكثر أذى للناس، بعدما تغاضت السلطة لأكثر من سنة عن تقييد حركة الاستيراد. تلك عبارة تقلق مدّعي الحرص على الاقتصاد الحر. ولذلك، لم يجرؤ أحد على المسّ بحركة الاستيراد والتصدير أو حركة الأموال، ما حصر الخيارات بتقليص الدعم، وزيادة التباطؤ الاقتصادي من جراء التضخم المتوقع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا