ليس من السهل على مهرجان ثقافي مستقل في العالم العربي، لا يحظى بدعم ثابت ولا يتبع لمؤسسة رسميّة، أن يستمرّ ويعمّر ويبلغ عامه العاشر. فكيف بالأحرى حين يكون هذا المهرجان متخصصاً بالرقص المعاصر، أحد أصعب أشكال التعبير؟ كل شيء ممكن في الرقص المعاصر، حتّى انتفاء الرقص أحياناً، وتراجع فكرة التناغم والسلاسة.
ما يشوّش طريقة التلقّي ويجعل الجمهور المحلّي يتعامل بالحذر نفسه، مع الروائع أو التمارين الجسمانيّة والمشهديّة العابرة. كل ذلك يجعل من تلك الممارسة الابداعية مغامرة عصيّة على التجذّر في تربة الثقافة التقليديّة. ومع ذلك، فهناك راقص لبناني وكوريغراف اسمه عمر راجح، خاض هذه المغامرة المجنونة مع شركاء محليين وعرب في «مقامات»، وانضمّت اليه في السنوات الحاسمة رفيقة دربه ميا حبيس، وها هما اليوم يعبران بـ «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» إلى برّ الأمان. BIPOD (مختصر تسميته الانكليزيّة) تنطلق اليوم دورته العاشرة، والمناسبة تستحق الاحتفاء، خصوصاً أنّها دورة أكثر من مقبولة: من الافتتاح الليلة مع البريطاني راسل ماليفانت، إلى مسك الختام مع البلجيكي فيم فانديكيبوس في «ما لا يتذكّره الجسد»، باكورته التي تحمل عبق العصر الذهبي للرقص المعاصر.
قد نسرف في التفاؤل إذا جزمنا بأن «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» وصل إلى برّ الأمان. لنقل إنّه صمد رغم المصاعب، بدعم مؤسسات غربية وسفارات أجنبية. استقطب إلى بيروت حفنة من كبار الرقص المعاصر في العالم من ساشا فالس وألان بلاتيل ووليم فورسايت وأكرم خان وصولاً إلى نصيرة بلعزّة ورضوان المؤدب. ونجح في خلق جمهور حقيقي للرقص المعاصر، وخلق شبكات تواصل مع مدن عربيّة أساسيّة كعمّان ورام الله ودمشق، وعرّفنا بتجارب عربيّة ولبنانيّة مهمّة، إضافة إلى اللقاءات والندوات والفرص العالميّة التي فتحها أمام راقصين عرب. كل ذلك رصيد ينبغي الاحتفال به الليلة، خصوصاً أن المهرجان أصدر كتاباً فخماً يؤرّخ لمساره طوال عقد. وكل ذلك رصيد لا ينبغي التفريط به، ومطلوب حمايته وتأمين وسائل الاستمرارية والانفتاح والنموّ. الدورة المقبلة من «مهرجان بيروت للرقص المعاصر سيكون لها مدير جديد، يعلن عنه في حينه. سينقل عمر المشعل إلى شخص أهل بمواصلة التجربة ويؤتمن على مكتسباتها، وقادر على ارساء طرق جديدة في التخطيط والتمويل والبرمجة.
كل ذلك لا يعني عدم وجود ثغرات ينبغي التصدّي لها. كنّا نتمنى مثلاً أن يتضمّن البرنامج عروضاً لبنانية وعربية، رغم صعوبة تمويلها. سنكتفي في هذا السياق بـ «حبر»، العمل المشترك الذي انجزه عمر راجح العام الماضي في سويسرا مع زميله مارسيل ليمان. لكن لا ينبغي أن نعكّر الآن جوّ الاحتفال. مبروك! لقد بلغ BIPOD سنّ الرشد.