لم يحتشد المعتصمون، أمس ، بدافع تلبية دعوة «هيئة التنسيق النقابية» للمطالبة باقرار سلسلة الرتب والرواتب فحسب، شعورهم بـ «الغبن» من قبل دولتهم التي تمعن في «أكل» حقوقهم، وفي اهمال مطالبهم، دفع معظمهم الى النزول الى الشارع، ايمانًا منهم بانهم سيشكلون قاعدة شعبية ضاغطة، يمكن للدولة ان «تعمل لها حساب» في المرات القادمة. «مبايعين» حنا غريب «قائدًا» لهذه القاعدة.
على وقع «وينك، اكسر هالصمت اللي فيك» يبدأ المعتصمون بالتوافد نحو ساحة رياض صلح . تستقبلهم أغنية ماجدة الرومي لتزيد حماستهم . وعلى الرغم من ان حناجرهم لم «تصدح» بالحدة المعهودة في التظاهرات، فالأجواء كانت «هادئة» نوعًا ما، حيث توزع المعتصمون بين ارجاء الساحة على شكل مجموعات مختلفة، الا ان وقوف المتظاهرين تحت اشعة الشمس لاكثر من ساعة، وقدوم بعضهم من مناطق بعيدة، دليل على جدّية اصرارهم على تحقيق مطالبهم.
«نثق بحنّا غريب قد ما منوثق بحالنا»«لا، ظابطة ظابطة!» يحدث الرجل الاربعيني زميله عن تقويمه للاعتصام، في رايه الحشد كاف «لاثبات موقف» . فيأتيه الرد أن «في هذه الحالات لا يكفي الموقف، هم يعرفون موقفنا، لكن عليهم ان يلمسوا خطورته، ولا يجري ذلك الا عبر الحشد». غالبية المعتصمين، كانوا يتكلمون بـ«نبرة قوية» عن وجوب اقرار السلسلة، لا بل عن وجوب «إطاعة» الدولة لمطالبهم. «نحن من نأتي بهم وعليهم ان يطيعونا»، ترددت هذه الجملة على ألسن الكثير من المتظاهرين، الامر الذي يؤشر الى خروج هؤلاء عن جو «الانصياع الاعمى» السائد، ورفضهم «الفوقية» المتبعة من قبل معظم القوى السياسية. «من قبل كنت مثل الماعز، هلق لأ»، هذا ما يقوله موظف دولة مضى على توظيفه اكثر من ثلاثين عاما، يحدثك الرجل الخمسيني عن عزمه على مقاطعة الانتخابات، اذا لم يقرّ مجلس النواب السلسلة، في رأيه ان هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن ان «توجع» الزعماء في لبنان. «لو الشعب واعي ما بينتخب»، تتحدث المعلمة الثلاثينية بحدة عن خمسة عشر عاما امضتها في التعليم، من دون ان تشعر بأنها «مُنصَفة»، وترى انها لن تنصاع بعد اليوم لأي زعيم «لا يؤمن لي معيشة كريمة». من يبحث عن مصدر تلك «النبرة»، التي يتحدث بها غالبية المتظاهرين، يجد ان الانطباع الذي تخلفه «هيئة التنسيق» عمومًا، وحنّا غريب خصوصا في نفوس أولئك، هو السبب الاساس. ذلك انهم مقتنعون بأن غريب، وحده استطاع ان يحافظ على حياة نقابية محايدة، تحاكي حقوق الناس ومطالبهم، وتضغط على الطاقم السياسي بدون أية «محسوبيات». لا يفصل المجتمعون بين جهود الهيئة وحنا غريب، عند سؤالك عن ثقتهم بالهيئة، حالما يبدأون بالتكلم عن أهمية الخطوات التي تقوم بها، يتطرقون الى أهمية وجود أشخاص في البلد أمثال غريب. هم يثقون به «قد ما منوثق بحالنا»، ويرون ان الهيئة صامدة ومتماسكة بفضله، «يكفي انها فرضت احالة سلسلة الرتب والرواتب على مجلس النواب، وأضربت 33 يوما، ولم ترضخ لاية ضغوط سياسية». وعند سؤالهم عن سبب تلك الثقة، او عما اذا لديهم هواجس من ان يقوم حنا بتسوية معينة على حسابهم، لا يستغرقون وقتا ليجيبوا «قطعًا لا»، «لو بدو يعملها كان عملها من قبل»، «غيرو ممكن، هوي لأ». وعند الحديث مع بعض المتظاهرات يعتلي حنا المنبر لتقطع حديثها معك كي «تنصت» إليه. يذهب تأثير غريب في بعض المتظاهرين الى حد استخدامهم تعابيره وجمله، «لن نقبل ان تقر السلسلة على حساب الفقراء، فليذهبوا الى حيتان المال، الى المستولين على الاملاك البحرية والجمارك وغيرها»، عبارة تكاد تكون مشتركة بين كل من يُسأل عن «هواجس» رفع الاسعار، الذي تلوح به الهيئات الاقتصادية والسياسية، الا ان هذا «التأثر» لا يعني انهم يفوضون غريب تفويضاً «أعمى»، ذلك ان هذا التأثر، وعلى خلاف التأثر السياسي، قائم على اقتناعهم بما يقوله، ويفعله الرجل، نتيجة المامهم بالتطورات وبمنهجية سير المفاوضات، يكفي ان تقوم بجولة بين المجتمعين، وتسمع أحاديثهم عن رفض الحلول المجتزأة، وعن عدم صوابية اقرار السلسلة على حساب الفئات الشعبية، وعن ضرورة وضع سياسات للحد من الهدر الحاصل، وغيرها، لتستنتج اطلاعهم على أحقية مطالبهم. «لدى المعلم اليوم الوعي الكامل لحقوقه، وبالتالي لن يقبل حقوقا مجتزأة ومرقعة، مهما كبرت ثقتنا بـ حنا» ..هذا ما يقوله استاذ ثانوي امضى ثلاثة عشر عامًا في قطاع التعليم. ويضيف «ثمة دائمًا شرائح واعية، لكنها تحتاج الى موجه أهلًا للثقة». وعلى الرغم من الثقة التي يبديها المجتمعون بقدرة تحركهم على الضغط على الجهات المعنية، وعزمهم عن «الانسلاخ» عن مرض «الانصياع» السائد لدى العديد من اللبنانيين، الا ان من بين المجتمعين من لم يكن متفائلًا بهذه التحركات، انطلاقًا من اعتبارهم ان النظام السياسي الفاسد يحتاج الى ما هو اكبر من عمل نقابة، وان الضغط الحقيقي يقضي بتوسيع قاعدة «المنسلخين» عن زعماء طوائفهم، وهو، برأيهم، يحتاج الى «معجزة». وعند سؤالهم عن سبب نزولهم الى الاعتصام طالما انهم غير متفائلين بجدوى تحركات كهذه، يجيبون: «ما في بديل»، ذلك انها الوسيلة الوحيدة المتوافرة للتعبير عن رفضهم للواقع الحاصل. ما عكسته التظاهرة امس يتخطى مسألة مطلب حقوقي، ليشمل حركة نقابية مستقلة لديها من يؤمن بها، لدرجة انه قادر على الاستغناء عن زعماء الطوائف من اجلها! الامر الذي يمثل خطرًا إما على الطاقم السياسي في لبنان، أو على حنا غريب!