عمّان | يزداد توتّر «اللاعبين الثانويين»، وخاصة قدامى المطبّعين منهم في الإقليم، مع اقتراب دخول الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، إلى المكتب البيضاوي الشهر المقبل. التحضيرات السياسية على قدم وساق، والمشهد يزداد وضوحاً بإعادة التكتّل والتلاقي بين دول المنطقة التي تنقسم حالياً ما بين مطبّع قديم، ومطبّع جديد، ومَن يسعى إلى علاقة متوازنة مع إسرائيل عبر محور وسطي بعيداً عن فجاجة التطبيع الخليجي (والمغربي والسوداني)، وهنا الغمز من قناة العراق. وإن كانت الخريطة السياسية تميل إلى التعقيدات، فإن خريطة الطاقة أكثر ثباتاً وليس من السهل تغييرها، إذ يعتمد رسمها على استراتيجيات بعيدة المدى محسوبة في الغرف المغلقة المؤثرة فعلياً في صنع القرار والمزاج العالمي، وليس في دول هشّة لم تستطع إلى اللحظة تأمين لقاحات لفيروس «كورونا» المستجدّ لشعوبها.وسط ذلك، يدرك الأردن أهمّيته جغرافياً، وهو يسعى مع دبلوماسيته المرنة وانفتاحه التام على «واشنطن الديموقراطية» إلى تأمين نفسه، لكن بحذر هذه المرّة وبوضع أسهل من السنوات الأربع الماضية، متّكئاً على حساسية المشاريع الحيوية مع دول الجوار العربية والعدو الإسرائيلي. هنا، تُمثّل الأراضي القاحلة الممتدّة شرقاً وجنوباً بيئة خصبة لزراعة خطوط الطاقة المهمة من الخليج والعراق إلى البحر المتوسط، ومستقبلاً بالعكس، وذلك عبر خطوط الغاز والبترول والربط الكهربائي، ومنها ما أزهر بالفعل وآتى أكله. فقد مضى عام على استقبال الأردن للغاز الإسرائيلي، وكما الحال مع معظم القضايا في المملكة والإقليم، تراجع زخم الحديث عن اتفاقية الغاز مقابل الوضع الوبائي وقانون الدفاع الساري منذ آذار/ مارس الماضي، والذي تسبّب في تجميد الحياة السياسية الشعبية والحزبية والنقابية.
هكذا، يتدفّق الغاز المسال من حقل «ليفاياثان» قبالة سواحل حيفا المحتلّة عبر أنبوب أشرفت على مدّه «شركة فجر الأردنية ــــ المصرية لنقل وتوريد الغاز الطبيعي»، وهي الشركة نفسها المسؤولة عن توريد الغاز المصري للمملكة من خلال خطّ الغاز العربي الذي شهد انقطاعات متعدّدة بسبب التفجيرات المتتالية له في الأراضي المصرية، إلى أن استُكمل الضخّ عبره في 2018 مع انخفاض في الكمّيات بسبب انخفاض الطلب الأردني المعتمد على الغاز الإسرائيلي، علماً بأن الكمّيات التي تُصدّرها القاهرة محسوبة من الكمّيات التعويضية. وبحسب التقرير السنوي لوزارة الطاقة والثروة المعدنية الأردنية، استوردت عمّان في 2019 نحو 345 مليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي يومياً، ساهمت بنسبة 87% في توليد الكهرباء، وكانت نسبة مصر منها نحو 42%.
وطبقاً لتقرير «الشركة المصرية القابضة للغازات» (إيجاس)، للعام المالي 2018/ 2019، تمّ توريد 53 تريليون متر مكعّب إلى الأردن عبر خطّ الغاز العربي، الذي بدأ على أنه مشروع ضخم لتوريد الغاز المصري عبر الأردن إلى سوريا ولبنان وشمالاً نحو تركيا فأوروبا. هذا الخطّ تمّت مرحلته الأولى في تموز/ يوليو 2003. أما الجزء الأوّل من مرحلته الثانية، فاكتمل في نيسان/ أبريل 2007 داخل الأراضي الأردنية، والجزء الثاني في آذار/ مارس 2008. ثم نُفّذت المرحلة الثالثة وتحديداً الجزء الجنوبي منها داخل الأراضي السورية من الحدود الأردنية إلى مدينة حمص بطول 310 كلم، وتمّ تشغيلها في تموز/ يوليو 2008، وأخيراً جرى تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر الأردن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، قبل أن يتوقف العمل مع بدء الحرب السورية.
على المقلب الآخر، يمضي العراق في المشروع الضخم لمدّ أنبوب النفط من البصرة إلى العقبة بطول 1645 كلم، لتأمين نفطه غرباً بعيداً عن مزاحمة الخليج من جهة، وطموحاً إلى الوصول إلى البحر المتوسط بمساعدة مصرية. الإغراءات التي قدّمتها الحكومة العراقية إلى نظيرتها الأردنية تمثّلت في مذكّرة التفاهم التي وقّعها الجانبان وأفضت إلى تدفّق البترول العراقي في أيلول/ سبتمبر 2019. ومنذ ذلك الوقت، يغطّي العراق 7% من الاحتياجات الأردنية من النفط الخام بواقع عشرة آلاف برميل يومياً، وذلك بسعر أقل من العالمي بنحو 16 دولاراً أميركياً. لكن يبدو أن بغداد تطمح إلى ما هو أكثر من ذلك، بل يمكن القول إنها تناور بالورقة الأردنية المقبولة أميركياً بعدما تجاهلت الحكومة العراقية إغراءات وتهديدات من واشنطن الرامية إلى الحدّ من تعاونها مع طهران في مجال الطاقة، وعلى الأخصّ استيراد الكهرباء والنفط، وهو ما يمكن تسميته «خرق العقوبات عنوة». من هنا، جاء الترحيب الأميركي باتفاقية الربط الكهربائي الأردني ــــ العراقي كبديل من طهران، على رغم أن بغداد وقّعت مع الأخيرة صفقة لاستيراد 30-40% من حاجتها من الكهرباء.
مهما تكن السيناريوات لتكتّل الطاقة هذا، يبقى مرهوناً بالضغوط الإسرائيلية


أردنياً، بدأت التحضيرات لطرح مناقصة بناء شبكة الكهرباء الأردنية ــــ العراقية بداية 2021. في المرحلة الأولى، سيوفر الأردن 150 ميغاواط من الكهرباء للعراق لثلاث سنوات قابلة للتجديد، كما سيبدأ العمل في مشاريع المرحلة الثانية التي تشمل بناء قدرات التبادل الكهربائي بين البلدين وإنشاء سوق كهرباء عربية مشتركة، إذ أعلن وزير الكهرباء العراقي، ماجد مهدي حنتوش، أن بلاده لا تعمل على الربط الكهربائي مع الأردن فقط، بل على استكمال توصيل الكهرباء مع مصر خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهنا لا غنى عن الأردن ليكتمل المشروع كما هو متوقع.
تُمكن قراءة دخول العراق إلى ساحة الطاقة المتوسّطية من منطلق لجوئه إلى منطقة آمنة من المحاصصات الطائفية في الإقليم، أو سعيه إلى موطئ قدم وفاتحة علاقات أقلّ توتراً على قاعدة «المصالح المشتركة» التي ستكون محلّ ارتياح أميركي. ومهما كانت السيناريوات المطروحة لتكتّل الطاقة العراقي ــــ الأردني ــــ المصري، يبقى مرهوناً بالضغوط الإسرائيلية لتقريب بغداد من تل أبيب. كيف لا، ومفتاح الغاز والكهرباء والشروط الجزائية القاسية بيد إسرائيل لا الأردن ومصر، حتى إن كان المعبر أردنياً أو مصرياً!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا