بعد أسبوع فقط على دخول جو بايدن البيت الأبيض، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية تقريرها الشهري، وجاء فيه إشارة قوية إلى استمرار دعم تركيا لتنظيم «داعش»، إذ يذكر التقرير أن «التنظيم الإرهابي لا يزال منتعشاً اقتصادياً، بفضل اعتماده على محاور لوجستيّة داخل تركيا من أجل تمويله ماديّاً». ويُذكر أيضاً أن التنظيم غالباً ما يجمع الأموال ويرسلها إلى وسطاء في الداخل التركي يهرّبون الأموال إلى سوريا، فضلاً عن أنه يعتمد على شركات الخدمات الماليّة، ومنها ما هو موجود في هذا البلد.في الوقت نفسه، جاء تعيين المبعوث الخاص السابق لـ«التحالف الدولي لمكافحة داعش»، بريت ماكغورك، منسّقاً لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي، بمثابة «دوش بارد جداً» على الدولة التركية، لا سيّما أن ماكغورك كان داعماً قويّاً للمجموعات الكردية في شمال شرقي سوريا، ومجاهراً بمواقفه ضدّ تركيا، التي اتهمها، في عام 2019، بالسماح بإرسال 70 ألف مقاتل من المتطرّفين من أكثر من مئة دولة في العالم، إلى الداخل السوري لقتال النظام و«قوات سوريا الديموقراطية». وإذا أضيفت إلى ذلك، انتقادات وزير الخارجية الأميركي الجديد، أنتوني بلينكن، لتعاون أنقرة مع موسكو، ستجد الأولى نفسها أمام هجمةٍ منظّمة ومتعدِّدة الأوجه، من جانب قوى غربية رسميّة وغير رسميّة.

تقرير «سالوكس»
في هذا السياق، يبرز تقرير أصدره وقف «سالوكس» (sallux)، والذي كان، حتى عام 2016، يسمّى «وقف السياسة المسيحيّة من أجل أوروبا» (ecpm)، يعبّر عن وجهات نظر الأحزاب المسيحية في أوروبا. التقرير الذي أعدّه كلّ من يوهان دي يونغ وكريستيان ماينن، ويقع في 35 صفحة، يتحدّث عن كيفية مواجهة السياسات «العدوانية» لتركيا التي توسّعت كثيراً في الآونة الأخيرة، لتشمل شرق المتوسط وليبيا والقوقاز. ويتّسم بجانب كبير من الأهمية، كونه يعكس موقف تيار سياسي واسع ومؤثّر في دول الاتحاد الأوروبي والأعضاء في «حلف شمال الأطلسي»، أي أن التقرير يتطرّق إلى قضايا تتّصل تلقائيّاً بموقع تركيا في هاتين المنظّمتَين، وما تشكّلانه لهذه الأخيرة من أهميّة حيويّة.
يشير التقرير، أوّلاً، إلى علاقة أنقرة بتنظيم «داعش»، والأسس الفكرية التي تظلّل التدخلات التركية، والتي تعكسها «العثمانية الجديدة». كما يرى أن تركيا، عبر روابطها «الداعشية» و«العثمانية»، تشكّل تهديداً حقيقيّاً لأوروبا التي يجب أن تستفيق من سباتها. ويوصي بقطع أي مساعدات من أيّ نوع كانت عنها، بل يذهب إلى حدّ دعوة البرلمان الأوروبي والمفوضيّة الأوروبية إلى وقف المفاوضات وإنهاء الاتفاقية الجمركية مع الجانب التركي. وهو ينتقد كذلك المواقف المتراخية للولايات المتحدة والدول الأوروبية غير الملزمة، للضغط على تركيا بذريعة التخوّف من موجات لاجئين جديدة والحفاظ على المصالح التجارية، في وقت تتزايد نزعتها التوسعيّة، وتُقمع الحريات في داخل البلاد. ويقول التقرير إن استمرار غض الطرف هذا، سيؤدّي إلى نقطة يصعب معها وقف هذا المسار التركي.
فرض العقوبات الاقتصادية على تركيا كما حظر بيع السلاح إليها، لم يعد كافياً لوقف سياساتها التوسعيّة


وينتقد التقرير سياسات أوروبا التي غضّت النظر عن ممارسات تركيا في سوريا ودعمها للجماعات الدينية المتطرّفة واستخدامها عناصرها في حروب ليبيا وعفرين وشمال شرقي سوريا وناغورنو قره باغ. ويقول إن الأدلّة القاطعة على دعم تركيا لتنظيم «داعش»، لها تأثيرات خطيرة على الأمن الأوروبي، لذا فإنها تشكّل تهديداً لأوروبا فضلاً عن كونها تقوّض أمنها. هذا التحليل يتزامن مع تقرير لوزارة الخزانة الأميركية يوثّق ارتباط تركيا ودعمها لـ«داعش»، والذي رأى فيه البعض جزءاً من الرسائل السلبية للإدارة الأميركية الجديدة تجاه أنقرة.
ويتوقّف تقرير «سالوكس» عند القاعدة الفكرية التي تقف وراء المشاريع التركية، أي «العثمانية الجديدة»، إذ يجب على الاتحاد الأوروبي أن يأخذها على محمل الجدّ. ويتساءل: «هل سيواصل الغرب سياساته الحالية مع تركيا، أم سيبادر إلى خطوات تردّ على سياسات التطرّف وعدم الاستقرار لتركيا؟»، ويردف بأن هذا هو «السؤال الأساسي»، وبأنه إذا لم تُتّخذ تدابير ضدّ أنقرة، فلن يكون ممكناً بعد ذلك حماية وحدة «حلف شمال الأطلسي» والاتحاد الأوروبي. ويعطي مثالاً على ذلك نداءات أثينا ونيقوسيا التي لم تستجِب لها بروكسل خلال التوترات الأخيرة في شرق المتوسط، متسائلاً: كيف يمكن استمرار التضامن الأوروبي في ظلّ رفض النداءات اليونانية والقبرصية؟ من هنا، يوصي التقرير، من أجل حماية وحدة وقيم «الأطلسي» والتكتُّل الأوروبي كما الاستقرار وحقوق الإنسان، اتّخاذ إجراءات جديّة تجاه تركيا.

رفع المظلّة الأطلسية
يتطرّق تقرير «سالوكس» إلى علاقة تركيا بـ«حلف شمال الأطلسي»، والذي يقول إنه لا يجب تعريض أمنه للخطر، من أجل حماية أنظمة شمولية. ويرى أن فرض العقوبات الاقتصادية كما حظر بيع السلاح إليها، لم يعد كافياً لوقف سياساتها التوسعيّة، وأنه لا بدّ من رفع الغطاء الذي تمثّله المادة الخامسة من نظام «الأطلسي» المتعلّق بدعم الحلف لأيّ دولة من أعضائه تتعرّض لاعتداء. في هذا السياق، يزيد بالقول إن تركيا «لم تعُد حليفاً موثوقاً، لأنها لم تلتزم بقيم الحلف ولا الاتحاد الأوروبي. وقد حان الوقت ليعرف الجميع أن رجالنا ونساءنا لن يضحّوا في حال تعرّضت لاعتداء، وأن المادة الخامسة لا يمكن أن تعمل تلقائيّاً». ويدعو التقرير إلى إيجاد «توازن قوّة جديد» بين تركيا وكل من الـ«ناتو» والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يخفّف من الكلفة البشرية والاقتصادية للسياسات الخارجية التركية، بحيث لا يُسمح لها بعد الآن بابتزاز أوروبا و«الأطلسي».
وفي القسم الأخير من التقرير، يذكر المعدّان أن الآلام والمآسي التي يعاني منها الأكراد والسريان والأزيديين والعرب والأرمن نتيجة سياسات العنف التركية «ليست مشكلتنا»، وعلى الـ«ناتو» أن يرسل إشارة واضحة جداً إلى أنه لا يمكن التسامح مع أنقرة على هذه السياسات، وذلك من خلال إفهامها أنه لن يحميها بموجب المادة الخامسة من نظام الحلف. على رغم كل ذلك، وفي حوار مع أحد معدّي التقرير، يوهان دي يونغ، يقول الأخير إن الهدف من التقرير هو الضغط على تركيا لوضع حدّ لسياسات التوسّع الخارجي. ويوضح دي يونغ أن التقرير لا يريد القول«أخرِجوا تركيا من حلف شمال الأطلسي»، فهذا «من جهة هراء، ومن جهة ثانية غير ممكن قانونيّاً. لكن العقوبات التي فرضتها أميركا والاتحاد الأوروبي هي مضيعة للوقت، في حين أن اقتراحاتنا واقعيّة ومحدّدة وقابلة للتطبيق».