أن تقطع مصارف المُراسلة في الخارج علاقتها المالية مع البنك المركزي اللبناني، فذلك يعني أنّ لبنان سيُواجه صعوبات في الاستيراد وتحويل الأموال والحصول على النقد الأجنبي، ويدلّ على أنّ الأزمة بلغت منحى خطيراً. تبعات الموضوع أخطر من الدعوى القضائية المرفوعة في سويسرا ضدّ حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، ومن الشكوى المُقدمة ضدّه أمام السلطات البريطانية، ومن التحريات التي تجري حوله في بنما ومحورها أيضاً شُبهات اختلاس وتبييض أموال. فالقرار بوقف التعامل المالي ليس أقلّ من إطباق الحصار كليّاً على البلد. انطلاقاً من هنا، أتى وقع المُذكّرة المُرسلة من سلامة إلى النائب العام التمييزي، القاضي غسّان عويدات في 31 آذار، ونشرتها «الأخبار» يوم الأربعاء 7 نيسان، قاسياً على القطاع المالي والمصرفي، وكانت محطّ مُتابعة من المسؤولين. أبرز ما يسرده سلامة في المُذكّرة أنّ علاقة مصرف لبنان بالمصارف المُراسلة والدولية تتعرّض لاهتزازات ستنعكس على كلّ القطاع المصرفي «ممّا يضع البلد في وضع صعب»، ذاكراً أربعة مصارف مُراسلة أوقفت حسابات مصرف لبنان لديها، وقد توقّع أن «تتوسّع هذه الإجراءات مُستقبلاً».
أنقر على الصورة لتكبيرها

يقول الرئيس السابق لمجلس إدارة مصرف «ستاندرد تشارترد» - لبنان، دان قزّي، إنّ مصارف المراسلة هي «بنك البنوك، وليس أمراً عابراً أن تُقفل حسابات مصرف مركزيّ». الأسباب التي قد تدفعها إلى اتخاذ هذا الإجراء هي «مواجهة الطرف المعني لعقوبات، أو وجود شكوك قانونية حوله، أو تخوّف مصرف المراسلة من تأثير السمعة السلبية للزبون عليه». فبعد الملفات القضائية المُتضمنة وثائق تُثير شُبهات اختلاس وتبييض أموال واستغلال سلامة لوظيفته لتحقيق أرباح شخصية، والتقارير التي يعمل عليها لبنانيون وأجانب في أوروبا وبريطانيا حول قضايا فساد، وبعد الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي، بات لزاماً على مصارف المراسلة «إعادة تقييم» علاقتها مع القطاع المصرفي اللبناني. المعايير الدولية تفرض أن يكون كلّ مصرف مسؤولاً مُباشراً عن التحقّق من صحّة العمليات التي يُجريها. لذلك، في حال ثبتت الاتهامات الموجهة لحاكم مصرف لبنان، الذي «يتفرّد» بين زملائه حول العالم بأنّه مُلاحق قضائياً، من دون إقالته من منصبه، من المُمكن أن تتعرّض المصارف المراسلة لملاحقات.
ماذا عن تعثّر الدولة في دفع سندات الدين بالعملة الأجنبية (يوروبوندز) التي يعتبرها سلامة سبباً في إقفال حساباته؟ يُجيب الخبير المالي مايك عازار أنّ «بلداناً عديدة أعلنت توقفّها عن الدفع، من دون أن يؤثّر ذلك على علاقتها مع المصارف المراسلة أو تُقفل حسابات البنوك المركزية». أما في لبنان، فيعمل «حزب المصرف» على ربط كلّ تبعات انهيار تشرين الأول 2019 بقرار الحكومة التوقّف عن دفع السندات، علماً بأنّ القرار اتُخذ عام 2020، في حين أنّه منذ الـ2018 توقّف «الأجانب» عن شراء الدين اللبناني، ولم يعد يكتتب بالإصدارات إلا مصرف لبنان. ولكن هل يستطيع حملة السندات توظيف التطورات لصالح الحجز على أموال مصرف لبنان الخارجية؟ يؤكد الوزير السابق، المحامي كميل بو سليمان، أنّه «بحسب القانونين الإنكليزي والأميركي، لا يحقّ لأحد الحجز احتياطياً على أموال عامة لتمتعها بحصانة تامة، إلا إذا رُفعت دعوى مُباشرة على الدولة أو مصرف لبنان كمؤسسة، وهو ما لم يحصل بعد».
تواصلت مصارف لبنانية مع «المراسلة» لتؤكد استمرار العلاقة المالية


حتى الساعة، لم يظهر بعد وجود «هجرة جماعية» للمصارف المراسلة، بل يقول دان قزّي إنّها «قرارات فردية من مصارف لا تُريد أن تُعرّض نفسها للمخاطر»، مُعتبراً أنّ احتمال إقفال كلّ حسابات مصرف لبنان الخارجية ضعيف، ولكن لو حصل فتأثيره مُرتفع. ويُنبّه أحد الخبراء الاقتصاديين إلى أنّ أثر حصول ذلك «لن يقتصر على ارتفاع أسعار المواد الغذائية أو انقطاع نوعٍ مُعيّن من الشوكولا المُستوردة، بل يتعدّاه إلى ضرب الصناعة المحلية». المُعضلة أنّ أكثرية المواد الأولية المُستخدمة في الإنتاج المحلي - بما فيها عَلَف الدواجن والمواشي - تُستورد. وإقفال حسابات مصرف لبنان في الخارج، «سيؤدّي إلى عدم قدرة الدولة على تأمين معظم حاجات الناس الرئيسية، كالدواء والقمح لإنتاج الخبز والمحروقات». ما هو الحلّ البديل؟ «فتح خطوط اعتماد مباشرةً بين لبنان والجهات الثانية، ليتم دفع مستحقات السلع المستوردة من دون المرور بمصارف المراسلة، أو الاعتماد على اقتصاد الكاش». أما التحويلات من الخارج، وتحديداً التي يُجريها المُغتربون وأموال المنظمات الدولية وغير الحكومية، «فلن تتأثّر لأنّها يُمكن أن تتمّ عبر شركات تحويل الأموال أو بالشحن». لمايك عازار وُجهة نظر أخرى، «نُناقش فرضيات وأقسى الاحتمالات التي قد نتعرّض لها، ولكنّنا لم نصل إلى هذه المرحلة». بالنسبة إليه «المُذكّرة ليست واضحة ولا تؤكّد وجود حصار مالي على لبنان. فمصرف لبنان سمّى أربعة مصارف توقّفت عن التعامل معه، ماذا عن البقية؟ ألا يُمكنه أن ينقل الاعتماد من مصرف إلى آخر؟».
لا يشرح سلامة في المُذكّرة الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى إقفال حساباته المصرفية، ولا يُحدّد التاريخ الذي أُقفلت فيه، والأهم أنّه لا يُقدّم أي اقتراح حلّ. رمى الطابة في ملعب القاضي عويدات، الذي لا يملك أي صلاحية تُخوّله التصرّف في هذا الملفّ، كما لو أنّ كلّ هدفه منها «إثارة المخاوف من دون اقتراح الحلول. إذا كان سلامة يعتبر أنّ أساس المشكلة هو في الاتهامات الموجهة إلى مصرف لبنان، فالأجدى به تصحيح المخالفات التي ارتكبها وليس التهويل»، يقول عازار. وفي الإطار ذاته، يعتقد مديرو مصارف أنّ هدف المذكرة هو الضغط، «لأنّ المشكلة ليست آنية، وتحديداً مع المصارف الأربعة التي ذكرها سلامة، وهي «ويلز فارجو» و«HSBC» و«دانسكي» و«CIBC»، بل تعود إلى أشهر مضت، وتضاف إليها مصارف أخرى أوقفت نهائياً التحويلات المالية من لبنان وإليه». وقد تواصلت مصارف تجارية أمس «مع كبريات مصارف المراسلة التي يجري التعامل معها، لتؤكّد عدم تغيير شروط العمل أو تعليقه».
يعرف سلامة أنّ مُذكّرته للنائب العام التمييزي تُخفي الأسباب الحقيقية لتردّي العلاقة مع مصارف المراسلة التي تشهد حسابات المصارف اللبنانية لديها عجزاً منذ سنوات. لا يهتمّ بإيجاد حلولٍ لهذه المشكلة، بقدر ما يُريد استغلالها لتخليص نفسه، والدليل عدم إرساله إلى الجهات المختصة وإخفاؤه تفاصيل أخرى. إلا أنّ ذلك لا يُلغي دقّ ناقوس الخطر، لأنّ الأزمة مع المصارف المراسلة واقعة، ومُرشحة للتفاقم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا