اختار الرئيس الأميركي، جو بايدن، موعداً لانسحاب قوات بلاده من أفغانستان، يُتمِّم فيه أعواماً عشرين من الحرب التي خِيضت تحت عنوان «مكافحة الإرهاب»، وجاءت ردّاً على هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وفق الإطار الذي يضعه فيها أصحابها. وعلى رغم تركيز الأطراف الضالعين في الملفّ الأفغاني على تأخُّر الانسحاب الأميركي عن الموعد الذي ضرَبه دونالد ترامب في الاتفاق الذي وقّعته إدارته مع حركة «طالبان»، قبل عام، إلّا أن قرار الرحيل لم يكن متوقّعاً من أساسه، بالنظر إلى جملة عوامل شكَّلت هذا الاعتقاد، لعلّ أبرزها الإشارات المتكرِّرة إلى غياب الجاهزية، ومخاطر «الإرهاب» المتنامي في هذا البلد، فضلاً عن مخاوف مرتبطة، أوّلاً وأساساً، بمَيل الكفَّة على الأرض إلى مصلحة «طالبان» التي لا تفتأ تعزِّز نفوذها محلياً، وفي علاقتها مع القوى الإقليمية والدولية. ومن هنا تحديداً، جاء ربط «حلف شمالي الأطلسي»، أخيراً، الانسحاب بإتمام عملية السلام الداخليّة التي تنعقد جولتها المقبلة في مدينة إسطنبول التركية، نهاية الشهر الجاري.في وجوه التشابه، تبدو خطوة الانسحاب متّسقة مع الوعود التي أطلقها بايدن في خضمّ السباق إلى البيت الأبيض، ومن بينها ما قاله عن ضرورة «إنهاء الحروب في الشرق الأوسط» للتركيز على التحدّيات الكبرى التي تواجهها الولايات المتحدة، وأساسها صعود الصين. كما تبدو مكمِّلة لمساعي الإدارة السابقة في اتجاه الخروج من المنطقة. لكن هذا لا يعني، على أيّ حال، اتّساق الأهداف، بالنظر إلى التعارض الكبير بين سياستَي الإدارتَين: من «أميركا أولاً» إلى استعادة الريادة الأميركية ولو بالقوّة. بهذا، يكون إعلان بايدن المفاجئ قد حسَم، إلى حدٍّ بعيد، توجّهات الإدارة الجديدة في المنطقة، وتالياً في العالم، كما حدّدتها الاستراتيجية الأوّلية للأمن القومي: انخراط أقلّ في الشرق الأوسط، في مقابل تعزيز الحضور العسكري في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وأوروبا. ويمكن الإشارة هنا، إلى أن ما سبق، يُعدُّ التطبيق العمَلي الأوّل لخطط إدارة باراك أوباما، الذي وضع سياسة «الاستدارة نحو آسيا» في صلب عقيدته الرئاسية.
إزاء ما تَقدَّم، يصبح الانسحاب من أفغانستان أمراً لا مفرّ منه، وإن كانت قيادات «البنتاغون»، ومن ورائها مجمع الاستخبارات، غير راضية عن الخطوة المستعجلة، وتفضِّل ترحيل الموعد إلى أجلٍ غير مسمّى، وهو ما عبّر عنه، بدايةً، تلكّؤ بايدن وخشيته الخروج «قبل الأوان»، إلى أن حسم أمره يوم أمس، حين قال إن «الوقت قد حان لإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة»، بسحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول، فاتحة تورّط الولايات المتحدة في المنطقة. لكن اختلاف رؤى المؤسّسات الكبرى في واشنطن بدأ يظهر باكراً وبشكلٍ جَلي. وفي هذا السياق، حذّر مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وليام بيرنز، من أن القدرة على جمع معلومات عن التهديدات المحتملة والتصرّف حيالها، ستتضاءل عند سحب القوات الأميركية من أفغانستان، معتبراً أن الخطوة تمثّل «خطراً كبيراً»، قبل أن يستدرك قائلاً إن الولايات المتحدة «ستحتفظ بمجموعة من القدرات»، من دون أن يفصّل ما يعنيه ذلك.
تبدو خطوة الانسحاب متّسقة مع الوعود التي أطلقها بايدن في خضمّ السباق إلى البيت الأبيض


ومن شأن الانسحاب «غير المشروط» الذي سيجري بالتنسيق مع حلفاء واشنطن في «حلف شمالي الأطلسي» الذين أعلنوا تباعاً مباركتهم الإعلان الأميركي، على رغم معارضتهم السابقة، أن يفتح الباب أمام انتقادات من مثل أن تلك الخطوة تمثّل اعترافاً فعليّاً بالفشل، بيد أن هناك مَن يعتقد أن «ما من سبيل مستساغ يمكن الولايات المتحدة من خلاله الانسحاب من أفغانستان. فلا يمكنها إعلان النصر، ولا يمكنها الانتظار إلى ما لا نهاية حتى يتحقَّق ضرب شكلي من ضروب السلام». لهذا، يرى بايدن أنه «لا يمكننا أن نستمر في دورة تمديد أو تعزيز وجودنا العسكري في أفغانستان، أملاً بتأمين الظروف المثلى من أجل الانسحاب».
تأجيل استحقاق الأوّل من أيار/ مايو، كما هو مُحدَّد في وثيقة الاتفاق بين واشنطن و»طالبان»، أثار غضب الحركة، التي كرَّر الناطق باسمها، ذبيح الله مجاهد، القول إنه «في حال انتُهك الاتفاق ولم تغادر القوات الأجنبية بلدنا في الموعد المقرَّر، ستكون هناك بالتأكيد مشاكل، ومَن لا يحترم الاتفاق سيتحمّل المسؤولية». كما نبّهت الحركة إلى أنها ترفض المشاركة في مؤتمر حول السلام في أفغانستان تعتزم تركيا والأمم المتحدة وقطر تنظيمه بين 24 نيسان/ أبريل و4 أيار/ مايو في إسطنبول، وذلك «ما لم تُنهِ جميع القوات الأجنبية انسحابها». على هذا المنوال، أعربت روسيا، على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا، عن قلقها إزاء تأخير الانسحاب الذي كان مقرّراً بداية الشهر المقبل، محذّرة «من تصعيد محتمل مقبل للنزاع المسلح في أفغانستان، قد يؤدي بدوره إلى تقويض الجهود لإطلاق مفاوضات بين الأطراف الأفغان».
ويبقى أن آمال حكومة كابول ــــ الخاسر الأكبر في هذه المعادلة ــــ بتمديد الحرب إلى ما لا نهاية، قد خابت، ما اضطرّها إلى تقبُّل ما سيصبح أمراً واقعاً في غضون أشهر قليلة: فإما سيطرة «طالبان» نظراً إلى قوّتها العسكرية وغياب الدعم لقوّات الأمن الأفغانية، وإمّا حرب أهلية جديدة، على غرار تلك التي أعقبت الانسحاب السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن الماضي.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا