لن تحظى المحكمة الدولية بشرعية أخلاقية أو شرعية حقوقية، مهما حصلت على شرعيات المؤسسات الحاكمة في لبنان والعالم. ولن يزيد عملها من احترام جميع العاملين فيها اليوم. سوف تتيح لهم، بالتأكيد، خبرة في كيفية سيطرة العالم المجرم على فقراء الكون. وسوف يكون بمقدورهم، ولا سيما اللبنانيين منهم، الإجابة لاحقاً عن أسئلة حول كيفية التسلط على حقوق الأفراد باسم العدالة.
في مواجهة هذه المحكمة، سوف يكون لدينا الكثير لنقوله ونقدمه. لكن، يجب الانتباه مسبقاً الى مسائل عدة؛ من بينها:
أولاً: أن المحكمة تدافع بلسان الناطق باسمها مارتن يوسف عن الاستنسابية في اختيار عناوين الملاحقات بالتسريبات، بالقول إن نشر تفصيل الاتهام لا يمثل جريمة، علماً بأنها يفترض أن تكون سرية بالفعل. وأنها جمعت بجهود أجهزة أمنية محترفة. وأنها موجودة تحت سلطة الادعاء العام، الذي يخضع بدوره، منذ ما قبل تحوله من لجنة تحقيق الى مكتب ادعاء، لسلطة كل أجهزة استخبارات العالم. بل يعتقد مارتن يوسف أن نشر أسماء الشهود هو الجريمة، ناسياً أن هؤلاء الشهود سبق أن عُرفوا بكامل تفاصيلهم يوم توجهوا أو جيء بهم الى المحكمة. وأن أجهزة أمنية وقوى سياسية تولت إعداد بعضهم على عجل، فما كان بالإمكان تجنب أخطاء مدمرة. وأن غالبيتهم، لا يمثلون قيمة فعلية في المحكمة التي يراد لها أن تنطق بحكم افتراضي على جرم حقيقي، لكن بواسطة أدلة افتراضية.
ليس مهماً مارتن يوسف، ومن يتولى إدارته، وإن كانت المأساة في أنه يقبض نصف راتبه ومصاريفه من جيوب اللبنانيين... (بالمناسبة، متى ستطلب الحكومة اللبنانية نسخة عن موازنة المحكمة وتنشرها ليعرف المكلف اللبناني كيف تصرف أمواله؟) فالجواب معروف مسبقاً، وهو أن المحكمة لن تلاحق من يدعم نظرياتها الخنفشارية، بل ستظل تلاحق من يكشف فسادها وتحقيقاتها القائمة على تزوير وعلى شهود زور.
لكن، ماذا عنا نحن في لبنان؟
لم يكن ينقصنا سوى وزير للإعلام، يبدو أنه يعمل بدوام إضافي كناطق باسم المحكمة الدولية. ولم نعد نعرف كيف نخاطبه. هل هو محامٍ يريد إتحافنا بمحاضرات قانونية خلال توليه الحقيبة التي لا داعي لوجودها أصلاً؟ أم هو يريد لنا الصمت أيضاً، وهو تجرأ قبل أيام على مطالبة قناة «الجديد» بإلغاء المقدمة السياسية من نشرتها الإخبارية؟ صار الأخ ضليعاً في وسائل الإعلام المرئية أيضاً. وهو يعظنا بضرورة تذكّر بأن حرياتنا سقفها القانون. ثم يطلب بعض الوقت ليقول رأيه في القرار الاتهامي، ريثما تتاح له فرصة قراءته. لكنه يتمنى لنا البراءة، ويضرب كفاً بكف، معلناً أنه لا مجال إلا لاحترام قرارات المحكمة الدولية!
بالله عليكم، كيف يمكن مخاطبة وزير من هذا الصنف بغير دعوته الى الاستقالة، وإلى التزام منزله، تقاعداً متأخراً، علّه يريحنا مما هو أعظم في القابل من الأيام؟ وخصوصاً أنه مقتنع تماماً بما يقول، ولكنه في الحقيقة ملتزم الفاتورة السياسية التي حملته الى منصبه، وهي بأن ينسى وظيفته كحام للصحافيين، وكمدافع عن الحريات العامة، ويكون الى جانب الموقف السياسي لفريق يمعن في تدمير البلاد منذ 9 سنوات الى الآن... لكن لا بأس من مغامرة قانونية: ما رأيك يا معالي الوزير بأن تقاضينا أمام المحكمة الدولية لا أمام محكمة المطبوعات بجرم الذم والقدح والتحقير؟!
على أن أساس المشكلة ليس في ما يجعل مارتن يوسف يصرح بوقاحة عن كيفية التفريق بين مواد الاتهام وشهود الادعاء، وليس في عظات وزير الإعلام، بل إن المشكلة في كون السلطات اللبنانية المتعاقبة منذ 2005 إلى اليوم وفرت ـــ ولا تزال توفر ـــ الغطاء لكل هذه الموبقات القائمة باسم العدالة الدولية. والمشكلة تستمر، إذا لم تبادر الجهات السياسية القابضة على السلطات كافة في لبنان الى خطوة من أجل تصحيح الموقف. كما أن المشكلة سوف تتعاظم إن لم يبادر الجمهور المعني، من إعلاميين ووسائل إعلامية، ومن رأي عام ونقابات مهنية معنية، الى التحرك من أجل إسقاط هذه المحكمة ما لم تتقيد بقواعد تحفظ حقوق الأفراد والدولة في لبنان.
أمس، تصرف رسميون في مواقع مسؤولة، في الحكومة وفي القضاء وفي المؤسسات العامة، بما يدفعنا الى المزيد من القلق على حرياتنا. وشاركهم، وسط سياسي _ إعلامي _ ثقافي، من الفريق الذي يتمنى أن تنجح المحكمة الدولية في إسكاتنا، وفي إخلاء الساحة لأكاذيبهم، وتخيلاتهم عن حياة فيها حب وسلام... برعاية «داعش» وأخواتها!
هؤلاء، الذين يشكون من أن رصاصاً يقتلهم، يلجأون الى ما هو أكثر قساوة. هم يعتقدون بأن قرارات المحكمة تمثل الرد على من قتل منهم من قتل. لا بأس، لندعهم في غيّهم. هم سيبقون في موقع الساقط أخلاقياً، مهما تذرعوا لأنفسهم بحكايات أكل الدهر عليها وشرب.
ومن جانبنا، سنعود كما في كل مرة لنقول إن صوتنا سيعلو على صراخهم وتهويلهم، وإن صوتنا لا مجال لإسكاته مهما فعلوا، ومهما سيفعلون. وإن حكايتنا مع الحرية والعدالة بدأت بمقاومة أكثر صور الظلم المتمثلة بالاحتلال الأميركي والفرنسي والإسرائيلي لبلادنا. ومثلما طرد هؤلاء الغزاة أذلاء، سوف نطرد هؤلاء الملحقين إذلاء، ودون منّة من أحد!