ربما كانت الفضيلة الأكبر للجوائز الأدبيّة هي تعريفنا بالأدب «البعيد»، المختلف عن أدب العواصم المركزية، دمشق وبيروت والقاهرة، وبغداد بدرجة أقل. لولا الجوائز، ولولا المغامرة التي أقدمت عليها الدور البيروتيّة بالأخص، كنا سنظن بأنّ الجزائريّ الطاهر وطار أو المغربي محمد برادة هما ثمرتان متفرّدتان في شجرة الأدب المغاربي. ولولا «بوكر» هذا العام، و«دار الآداب»، لم نكن ربما سنتعرف إلى المغربيّ يوسف فاضل (1949)، وروايته التي دخلت القائمة القصيرة «طائر أزرق نادر يحلّق معي» (2013). ليس المغرب بعيداً عنا بالقدر الذي كنا نظنّه، وليس معتقل «تازمامارت» مختلفاً عن المعتقلات «الشرقية» الأخرى. القسوة هي ذاتها، والحنين هو ذاته، وجمر الزمن يحرق الأرواح ذاتها، ولو اختلفت الأسماء. ثمة جحيم صحراوي بالضرورة. ليس الاسم مهماً إلى هذه الدرجة.
عالم الاعتقال السياسي هو العالم الغرائبي الذي يغرقنا فيه يوسف فاضل حد الاختناق. «غرب المتوسط» هذه المرة، كمرآة أخرى لرواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط». كأن عزيز، بطل الرواية، يومئ إلينا بأنّ العشب في الضفة الأخرى ليس أكثر اخضراراً من عشب الشرق. تتكشّف التفاصيل المذهلة لنعرف بأننا أمام إعادة خلق لحوادث محاولة انقلاب الجنرال أوفقير عام 1972 على الملك المغربي الحسن الثاني. يبدو عزيز، أحد الطيارين المشاركين في العملية، بمثابة بطل «سلبي». لم يكن همه قلب نظام الحكم، بقدر ما كانت غايته التحليق فقط. 20 عاماً من السجن بعيداً عن الطيران. ذلك هو العذاب الفعلي. ولذلك لم يكن الانعتاق ليحدث بأقل من طيران آخر، ولو مجازي. ذلك الطائر الغريب الذي أدخل الشمس إلى زنزانة عزيز، كان البشارة بقرب نهاية السجن، وبداية الزلزال الذي رسم نهايات شخوص الرواية جميعاً. البطل الفعلي في رواية «طائر أزرق نادر» هو الزمن، أو بالأحرى ما تبقّى من لهيب جمر الزمن. لكلّ شخصية زمنها الخاص، وطريقتها الخاصة في إحصاء لحظاته، أما عقربا الوقت فهما مقصلة. هذا ما أدركه عزيز طوال 20 عاماً، وهذا ما سيحس به القارئ بعد إنهائه الرواية. عزيز لم يكن سوى ضحية أخرى للمصادفة أو الزمن. إنه رقم فحسب، بل هو أدنى من ذلك (بعد تمزيق لوائح أسماء المعتقلين)، فمصيره معلّق بيد عسكريّ شبه أمي وحراس أنصاف مجانين وزمن قائم على المصادفة. لا يمكننا التحدث عن هذه الرواية من دون أن نشير إلى الحضور الشفيف للطبيعة وعناصرها في السرد وأرواح الشخصيات. حتى الكلبة نهدة (أفرد لها فاضل فصولاً عدة تكون فيه هي المتكلم، وهي جرأة فنيّة غير مسبوقة عربياً) تبدو سجينة هي الأخرى، وواقعة في فخ الزمن ذاته. الجميع ضحايا. حتى السجانون الذين يظنون بأنّ الزمن بأيديهم معتقلون بأيدي زمن آخر أكبر منهم. لا نهاية لهذه الحياة إلا بانعتاق ينسف كل شيء ويعيد ترتيبه. هذا ما تقوله لنا الرواية، وهذا ما يهمس لنا به ذلك «الطائر الأزرق النادر» الذي يحلّق مع مَنْ يستحق التحليق ويكون جديراً به.



يوسف فاضل: «طائر أزرق نادر يحلّق معي» ـ دار الآداب، بيروت