لا يزال للحبكة التقليدية إغواؤها. مخطوط قديم يجده الراوي فيتماهى مع الراوي الأقدم لكسر إيقاع السرد، وإضافة صوت آخر مغاير، أو ببساطة تقمص الصوت لإدخال أفكار مسكوت عنها. وكذلك، ليس الأمر جديداً على «بوكر». لم ينس القراء رواية «عزازيل» بعد. ويبدو بأنّ الرواية التقليدية ستبقى ذات حضور مكرس لسنوات أخرى، طويلة ربما. لا تبتعد رواية «تغريبة العبديّ المشهور بولد الحمرية» (2013) للمغربي عبد الرحيم لحبيبي (1950) عن هذا التوصيف. رواية تقليدية بامتياز، في حبكتها ولغتها وسردها. لعل التجريب الوحيد الذي غيّر الصورة هو وجود الحواشي السفليّة.
لم يبلغ التجريب في الرواية مرحلة إدراج تلك الحواشي في جسد الرواية بذاته، لكن مجرد محاولة إيهام القارئ بأنّ ثمة مخطوطاً لرحالة مجهول وأنّ الراوي هو مجرد محقّق للمخطوطة، كان كافياً لخلق هذا الإيهام اللذيذ، ولخلق فسحة للتلصّص على حياة سابقة لذلك الرحالة المغربيّ في رحلته من المغرب إلى الحجاز، ثم طريق عودته. ولا بد من الإشارة إلى الجهد التوثيقي الكبير الذي بذله الكاتب في تلك الحواشي، ليسهم مجدداً في تكريس الرواية التوثيقية التي اشتهر بها صنع الله إبراهيم، الذي ظهرت أصداؤه في القسم المخصص للمحطة المصرية المتزامنة مع المرحلة الثانية من الحملة النابوليونية.
كان اختيار لحبيبي لأواخر القرن التاسع عشر اختياراً ذكياً بلا شك. أعاد خلق مرحلة تاريخيّة غنية؛ بداية انهيار الخلافة العثمانية ودخول الآخر الأوروبيّ إلى المشهد، وبداية الصراع الأزليّ بين الأديان. وبالرغم من الصور النمطيّة التي أغرقت توصيف الشخصيات، الأجنبية، إلا أننا سنمضي في لعبة الإيهام التي أراد لنا الكاتب أن نغرق فيها. كان الغريب/ الآخر مجهولاً ومخيفاً بالضرورة. وكانت ردود الأفعال مدفوعة بالعودة إلى أمجاد الماضي، أمجاد الإسلام الذي كانت له السطوة في قرون مضت. لذا كان لا بدّ من أَبْلَسَة الآخر/ الكافر، ومن استعادة «الطريق القويم». وبصرف النظر عما إذا كانت هذه الأفكار خاصة بالعبديّ في رحلته أم بالروائيّ في توثيقه، إلا أنها شديدة الأهمية في رسم صورة حاضرة الآن بقوة مع عودة الإسلام السياسي والاستقطابات القديمة. بعيداً عن التوصيف الخارجيّ لهذا الصراع، كان الكاتب موفّقاً في التقاط التفاصيل الجوّانية للشخصيات، لا سيما شهوة السلطة عند العبديّ، في محاولته لدمج الدين مع السلطان بعد تعيينه إماماً للقافلة الصحراوية، ثم اقترابه من طبقة التجّار/ الأشراف. وكذلك، كان لحبيبي متفرداً في التركيز على دور المرأة، لا كشريكة حياة وعنصر استقرار فحسب، بل كعنصر غائب عن معظم الروايات التاريخيّة، أي نساء السلطة، وإن بشكل عابر. إذ كان التركيز هنا على نساء التجار كحلقة ضروريّة لفهم هرميّة السلطة. وربما كان لاجتماع هذه العناصر كلها في «تغريبة العبدي» السبب الأهم في جعلها أقرب لهذا الزمن من روايات «حداثيّة» أخرى، وفي الإشارة إلى أنّ السرد الكلاسيكيّ لا يزال له حضوره وسطوته، وقدرته الفريدة على التجريب.




عبد الرحيم لحبيبي: «تغريبة العبديّ المشهور بولد الحمرية» ـ أفريقيا الشرق، الدار البيضاء