قبل أكثر من ربع قرن، كتب بريجنسكي كتابه "خارج عن السيطرة". كان قد مضى وقت قليل جداً على انهيار موسكو السوفياتية، وتفرد واشنطن "الليبرالية الاقتصادية" في قيادة العالم. الحدث الذي قيل أن بريجنسكي نفسه كان أحد مهندسيه. منذ شغل هذا "البولوني الثالث" ـــــ بالتزامن مع عصر يوحنا بولس الثاني وليش فاليسا ــــ موقعه في البيت الأبيض، إلى جانب "رئيس كامب دايفيد" جيمي كارتر. ومع ذلك، وبعد أشهر قليلة على تحقيق الحلم الأميركي بالقضاء على الماركسية الدولتية، كتب مستشار الرئيس للأمن القومي أن العالم ذاهب إلى كارثة. يومها اختصر بريجنسكي أطروحته، بأن الأرض في النهاية ليست، ولا يمكن أن تكون، "كورنوكوبيا". أو ذلك القرن الذي يسكن الأسطورة، والقادر على إعطاء كل شيء بلا حدود وبوفرة بلا نهاية وبلا أدنى ندرة حتى آخر الزمان... كانت واشنطن تحتفل بنصرها العظيم، يوم كتب أحد صانعيه ومنظريه، أن الأمور ذاهبة نحو الهاوية.
بعد أكثر من عقد ونصف، أصدر أمين معلوف كتابه الآخر، "اختلال العالم". من الجهة الأخرى من الأطلسي جغرافياً، ومن المقلب الآخر لفكر شرقي غربي متلاقح، كتب عضو "أكاديمية الخالدين" أن عدم فهم نصفَي الأرض لبعضهما، أخل بكل توازناتها، وضرب كل مرتكزاتها وأحدث هذا الاختلال العظيم. بين المؤلفين كانت طبعاً أطروحات كثيرة. من الإيديولوجية منها، مثل "بعد الامبراطورية" مع إيمانويل تود، إلى النقدية مع بول كينيدي إلى سواها. غير أن نظرة سريعة على عالم اليوم، تظهر أن عالمنا بلغ حداً من الخروج عن السيطرة والاختلال والجنون، مما لم تتوقعه أشد النبوءات تشاؤماً.
في يوم واحد، يزحف نازحون بالآلاف صوب أوروبا. لماذا؟ لأن ثمة مسخاً بشرياً باسم تجاري هو الإرهاب، يذبحهم في أرضهم المنهوبة ثرواتها، من قبل حكام طغيان واستبداد يدعمهم الغرب نفسه. فضلاً عن أن المسخ المذكور، كان في ولادته الفكرية وأصوله الدوغماتية، ربيب هذا الغرب أيضاً. تماماً كما أظهر استجواب الكونغرسمان هانك جونسون تحت قبة الكابيتول الأميركية قبل أيام. وفي اليوم نفسه، تعلن حكومات أوروبية أنها ستصادر ممتلكات النازحين إليها. فيما يستعد الحكام الغربيون لدفع مليارات لحل مشكلتهم مع النزوح، في مؤتمر لندن في 4 شباط المقبل. وبين الحجز والدفع، يتولى كاريكاتور سلطان عثماني قبض العمولة في الاتجاهين. على تصدير البشر، وعلى توريد المساعدات. ليعيد تدويرها في خدمة صناعة المسخ نفسه. فيما المسخ ينزل إلى الشاشات آخر ملاحمه الهوليوودية، عن تباهيه بوحوش مجزرة باريس!
ليست عواصف البشر الغريبة وحدها ما يشكل مشهد الجنون. في اليوم نفسه أيضاً، كانت عواصف الطبيعة تضرب في أكثر من مكان. هي أيضاً تحمل منجل الموت وتتقن الحصاد. عشرات الضحايا في الصقيع والجليد. مثلهم مثل خناجر داعش. أصلاً، وفي بحث بسيط يمكن اكتشاف الفاعل نفسه خلف الظاهرتين. فقبل العاصفة بساعات قليلة، كان تقرير دولي يظهر أن سنة 2015 كانت الأكثر دفئاً في تاريخ البشر المعروف. عشرة أشهر من دزينتها، سجلت أعلى معدلات حرارية على سطح الكوكب. هي كارثة التبدل المناخي، أو الاحتباس الحراري أو الانبعاثات الغازية، أو كل تلك التسميات الكثيرة لواقع واحد، هو أن الأرض تستباح من قبل أقلية فاحشة سعياً إلى ثروات فردية. هي المشكلة التي بات يحملها في واشنطن سياسي سابق، ترك السياسة وتفرغ لكوارث الطبيعة، اسمه آل غور. هو نفسه من كان نائباً للرئيس الأميركي طيلة ثمانية أعوام. وهو نفسه، من فاز بأكثرية ناخبي بلاده في انتخابات رئاستها سنة 2000. غير أن محكمة في فلوريدا أسقطته، لتحل محله رجل الظهورات الغيبية بوش الابن. جاء على صهوة حصانه التكساني متخماً بتعاليم شيخ نفطي، فأمضى أعوامه متنقلاً من حرب إلى حرب، جاعلاً من الأرض رقعة "استراتيجو" أو لعبة "أساسين غريد". مع شغف مراهق ومجانية النصر والهزيمة. حتى نجح بتحويل بن لادن جينياً إلى البغدادي، وتحويل الشر فعلياً من محور إلى محاور كل الأرض...
كان هناك بعد على وجه أرضنا، بعض فسحات للأمل. من آخرها ما كان يسمى رياضة. قبل أن تتحول عالماً مجنوناً من المال والسياسة والفساد والسلطة. لم يكن مستغرباً أن يسقط سيب بلاتر في الفيفا. فهو كان قد تحول ديكتاتوراً بلا تداول سلطة. لكن أن يسقط ساحر كروي مثل بلاتيني في مرض "الموت الأخضر"، تلك هي المأساة. وألا يقدر الحالمون بركلة على الاستمرار بمملكة جول ريميه، إلا بأمير من مملكة لا كرة فيها ولا أحلام، هذه هي الكارثة... كانت هناك بعد في المقلب الآخر كوة أخرى للعلاج بالوهم. اسمها الفن السابع. قبل أيام، قرر الممثلون السود في أميركا مقاطعة حفل توزيع الأوسكار. احتجاجاً على كوتا الترشيحات والجوائز بين الأعراق! كأن المشهد "باروديا" معكوسة لرائعة أول أوسكار أسود مع سدني بواتييه، "إحذر من الآتي إلى العشاء الليلة"... في النهاية، بات منطقياً أن تمنح كل الجوائز لسلسلة ماد ماكس، أو صمت الحملان. فهي الأشبه بعالمنا. وهي الأجدر بتقدير إنجازات حياة كاملة!