لندن | لم يكن بوريس جونسون أوّل رئيس وزراء بريطاني تطيح به أزمة داخل «حزب المحافظين»، المهيمن على السلطة في بريطانيا لأغلب القرنَين الماضيَين. فللمرّة الثالثة خلال أقلّ من عَقد، سقط رئيس وزراء المملكة المتحدة مجدّداً بيد رفاقه في السلطة، لا من خلال المعارضة، ولا نتيجة غضب شعبي. وإذا كان سلفاه (ديفيد كاميرون وتيريزا ماي) أزيحا من منصبَيهما بسبب مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، فإن الرئيس العتيد اضطرّ مُهاناً إلى الاستقالة بعدما تعاقبت الأزمات والفضائح في عهده، وأصبح استمراره - وفق سلسلة من استطلاعات الرأي - بمثابة تهديد حاسم لاستمرار «المحافظين» في السلطة بعد الانتخابات العامة المقبلة (كانون الثاني 2025)، ليُطاح به من خلال عاصفة من استقالات الوزراء وكبار الموظفين، في مشهد «شكسبيريّ» شاهده الملايين على الهواء مباشرة.لكن تغييب جونسون لن يكون بأيّ شكل نهاية لأوجاع بريطانيا، التي تعيش مذ تَولّى «المحافظون» السلطة في عام 2010، على وقْع الأزمة المالية العالمية وقرار الحكومة الكارثي آنذاك إنقاذ البنوك والمؤسّسات المالية المفلسة على حساب دافعي الضرائب، إذ افتتح هذا القرار عَقداً من سياسات التقشّف القاسية، فيما تسبّبت سياسات الخصخصة النيوليبرالية التي استمرّت عابرةً للحكومات منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، بخنْق القطاع العام وإنهاك البنية التحتية لمصلحة رأس المال. أمّا المؤسّسة الإيديولوجية للمملكة فتلهّت بإطلاق حروب ثقافية مبنيّة على الأوهام، قاسِمةً الشعب البريطاني حول العلاقة بأوروبا بين نقيضَين، ومُثيرةً عواصف من القبائلية وتململ الأقاليم من حُكم لندن المركزي، بينما التأثير الأميركي على القرار صار موضع تندُّر الشعوب الأخرى. وبدلاً من أن يلعب جونسون دوراً تاريخياً للتعامل مع ذلك التردّي إثر حصوله على أغلبية انتخابية حاسمة في عام 2019، وتوحُّد الشعب خلْفه في مواجهة جائحة «كوفيد 19»، اكتفى على صعيد الاقتصاد الكلّي بتمرير الوقت وتمديد السياسات القائمة، في حين ولّدت قراراته المحلّية أزمات خانقة متنقّلة، من النقص المزمن في العمالة إلى انقطاع الوقود، ومن الاختناقات في المطارات والنقاط الحدودية إلى الارتفاعات غير المسبوقة في تكاليف المعيشة ومستويات التضخّم، فضلاً عن تراجُع الصادرات ونقص المواد الاستهلاكية، ناهيك بالطبع عن المآزق الأخلاقية المخزية التي دفعت أقرب المقرّبين إليه إلى التنصّل منه.
ويتّهم خبراء، جونسون، بالمسؤولية عن عشرات الآلاف من الوفيات المبكرة بين البريطانيين الأكبر سنّاً بسبب سوء إدارة الجائحة، كما ارتفاع استخدام بنوك الغذاء الخيرية إلى أعلى مستوياته التاريخية على الإطلاق - حيث يتلقّى الآن أكثر من 2.5 مليون شخص طروداً عينية من التبرّعات من أجل الحصول على وجباتهم الأساسية -، فضلاً عن معاناة تسعٍ من كلّ عشْر أسر منخفضة الدخل من تدهور حادّ في دخْلها وفق ما سجّلته منظّمات دولية نهاية العام الماضي، وتضاعُف نسبة الأشخاص الذين أبلغوا الأطباء عن إصابتهم بالاكتئاب والقلق المَرَضي إلى نحو نصف السكّان، في الوقت الذي تعاني فيه المستشفيات العامّة ضغوطاً مفرطة للتعامل مع طوابير انتظار تلقّي العناية الطبّية، والنقص الفادح في التمويل. والمفارقة أن كلّ تلك المؤشّرات سُجّلت قبل الموجة الأخيرة من التضخّم، والتي تهدّد هي الأخرى بتضاعُف قيمة فواتير الخدمات الأساسية للكهرباء والمحروقات والماء والتدفئة خلال الأشهر القليلة المقبلة، بشكل سيجعل تسديدها أمراً متعذّراً بالنسبة إلى عشرات الملايين من المواطنين.
الفوضى التي تعصف بالبلد الراكد اقتصادياً والمستقطَب اجتماعياً يمكن أن تُقرأ كمرحلة انتقالية غامضة


ويتعيّن الآن، بحُكم الأغلبيّة التي يتمتّع بها الحزب الحاكم في مجلس النواب، اختيار رئيس وزراء جديد بديلاً لجونسون من قِبَل أقلّ من 200 ألف شخص - عدد أعضاء الحزب المسجّلين وهم بأغلبيّتهم من أجواء تحالف البرجوازية والأرستقراطية المسيطر على موارد البلاد -. إلّا أنه من غير المرجّح أن يقدّم المرشّحان اللذان يتنافسان على المنصب التنفيذي الأهمّ، أداءً أفضل من سلفهما؛ فكلاهما خدم في حكومة جونسون - ريشي سوناك كوزير للخزانة وليز تروس كوزيرة للخارجية -، وهما متورّطان سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر، في سلسلة الفضائح والإخفاقات التي تَسبّبت في النهاية بإسقاطه. والأمر الأخطر هو أن أيّاً منهما لا يمتلك أيّ رؤية لكيفية التعامل مع المشاكل البنيوية في بريطانيا، ويكتفيان باقتراحات هزيلة إمّا لخفض الضرائب – عن الأثرياء والشركات -، أو زيادة الإنفاق عبر طبع المزيد من الجنيهات الإسترلينية، ولكن الجميع يعرفون أن كلا الخيارين سيّئان، وأن التردّي المتراكم في الأشهر الأخيرة - ولا سيّما منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا - باقٍ ويتعاظم، ولن يذهب إلى أيّ مكان، بشهادة محافظ بنك إنكلترا المركزي نفسه. ولعلّ ممّا يفاقم من مفاعيل التأزّم، ضعف المعارضة وتشرذمها وفقدانها القدرة على التأثير، لا على العملية السياسية فحسب، وإنما كذلك على الطبقة العاملة التي يبدو وكأنها قد تجاوزت، من خلال سلسلة من الإضرابات، فكرة أن تمثيلها التاريخيّ يتمّ حصراً من خلال حزب «العمل»، بعدما سيطرت عليه منذ إسقاط اليساريّ، جريمي كوربن، في عام 2019، طُغمة يمينية أشدّ تطرّفاً من يمين «حزب المحافظين».
هذه الفوضى التي تعصف بالبلد الراكد اقتصادياً والمستقطَب اجتماعياً والمنحرِف سياسياً، يمكن أن تُقرأ كمرحلة انتقالية غامضة، بينما يبدو أن حُلْم اليمين بـ«بريطانيا عظمى» جديدة عبر الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي، واستعادة العصور الذهبية لـ«الإمبراطورية»، قد انتهى، بل وتَحوّل إلى كابوس عنوانه الصراع التجاري والسياسي المفتوح مع الشريك الاقتصادي الأهمّ، وسلسلة من الجروح التاريخية التي نُكئت في أقاليم اسكتلندا - طلبت رسمياً إجراء استفتاء على الاستقلال في تشرين الأول المقبل - وإيرلندا الشمالية وحتى ويلز، كما التساوُق المفرط والمكلف مع إرادة واشنطن. وعليه، يَظهر واضحاً أن بريطانيا تتّجه إلى فترة عصيبة قد تكون الأسوأ في تاريخها المعاصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن الأمّة البريطانية المرتبطة بأوهام الاستثناء والمجد الإمبراطوري، ستجد في النهاية أن ما أبقاها موحّدة وهادئة بالفعل كان إدارة النظام الرأسمالي من قِبَل الدولة، وتقديم الرعاية للمواطنين في التعليم والصحّة، والتقديمات الاجتماعية للعاطلين عن العمل والفقراء. لكن كلّ ذلك يجري تهشيمه اليوم مع تخصيص أغلب الخدمات العامّة، وسياسات التقشّف الحادّ، وقتْل الصناعات الوطنية لمصلحة الشركات المتعدّدة الجنسيات ومكاتب المضاربات المالية، وتورّم العاصمة لندن على حساب الأطراف، وتحوّل المملكة إلى مركز لتبييض أموال أثرياء العالم وتمتّعهم بالخدمات السياحية.
بالنتيجة، يبدو انتهاء عهد جونسون أشبه ما يكون بلحظة رمزية لتخلخُل دولة الرعاية البريطانية وتهلهُل عقدها الاجتماعي، فيما لا معالم بعد لميلاد نظام جديد سوى الأزمات وصراعات البقاء المفتوحة. إنها بداية لمرحلة الظلمة الفاصلة بين موت القديم وولادة الجديد، تماماً كما وصفها المفكّر الإيطالي، أنطونيو غرامشي، قبل مئة عام. والظاهر أن الحكومة الجديدة - التي سيُعرف رئيسها في أيلول المقبل - لن تكون سوى عرَض آخر من عوارض تلك المرحلة.