ترخي الاحتجاجات المنحسِرة في المدن الإيرانية بظلالها على المشهد الداخلي، لاسيما وأنها تترافق مع تكثيف الحرس الثوري استهداف المجموعات الكردية الإيرانية المناوئة للنظام، والتي تتكاثر الاتّهامات بضلوعها في تسعير العنف. ويتقدَّم الحدث الداخلي على ما عداه من تطوّرات، في ظلّ تراجع حظوظ إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ومسارعة الأطراف الغربيين إلى التنديد بـ«القمع» و«إسكات الشارع» ردّاً على الاحتجاجات، فيما تتصاعد حدّة الخلافات بين الجانبَين مع اتهام إيران، الولايات المتحدة بـ«إذكاء الاضطرابات»، وتطمينها إيّاها، في الوقت ذاته، إلى أن الجمهورية الإسلامية ليست مكاناً لـ«الثورات الملونة»
على رغم تراجع الاحتجاجات في إيران، وتحوُّلها إلى تجمُّعات متفرّقة محدودة في بعض المناطق، على خلفيّة وفاة الشابة مهسا أميني في أحد مراكز الشرطة في طهران، لا تزال هذه الواقعة، ومعها مواصلة الحرس الثوري استهداف الجماعات الكردية الإيرانية المناهضة للنظام في شمال العراق، يشكّلان الحدث الأوّل في إيران، في ظلّ تعثّر المفاوضات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني. وحمل اليومان الماضيان رسائل في أكثر من اتّجاه، مع عودة الهجمات ضدّ مراكز التنظيمات التي تصنّفها طهران «إرهابية» وتتّهم واشنطن بدعمها وتسليحها. وتعزو السلطات الإيرانية هذه الاستهدافات إلى تكثيف المجموعات المناوئة تحرّكاتها في المناطق الكردية الإيرانية شمال غربي البلاد، حيث تضطلع بدور مهمّ في إثارة الاضطرابات، وفق ما تؤكّده السلطات. وعلى رغم تراجع أنشطتها العسكرية في السنوات الأخيرة، خاضت التنظيمات المعارضة الكردية الإيرانية (تتّخذ من إقليم كردستان العراق مقرّاً لها)، تاريخيّاً، تمرّداً مسلّحاً ضدّ النظام في إيران، لكن الأخبار التي تمّ تداولها أخيراً عن أنها قامت بنقل أسلحة إلى داخل البلاد، مستغلّةً التحرُّكات الاحتجاجية، يبيّن أنها عادت إلى نشاطها المعتاد لتأجيج الاضطرابات.
وكان الحرس الثوري الذي بدأ هجماته على مواقع هذه المجموعات في شمال العراق في الـ24 من الشهر الجاري ردّاً على «تحرُّكات هؤلاء أخيراً، والتسلّل عبر الحدود والتعدّي على بعض المقرّات الحدودية الإيرانية»، استأنف، أول من أمس، قصف مقراتها قرب السليمانية في كردستان، مستخدماً الصواريخ الدقيقة والمدفعيّة والطائرات المسيّرة، ملحقاً «أضراراً فادحة بمقرات الميليشيات»، وفق مصدر عسكري مطّلع تحدّث إلى وكالة أنباء «فارس». وتوعّد الحرس، في بيان، بمواصلة العمليّة «بكامل عزيمتنا حتى يتمّ القضاء على التهديد بشكل فعّال، وتفكيك قواعد الجماعات الإرهابية». وفي إشارةٍ إلى ضراوة القصف، أعلن قائد القوات البرّية للحرس، العميد محمد باكبور، إطلاق 73 صاروخاً باليستياً أرض-أرض وعشرات الطائرات من دون طيّار لضرب مقرات المجموعات، مشيراً إلى أن الأهداف التي تم قصفها منتشرة في 42 مكاناً، وفي بعض الحالات على بعد 400 كيلومتر عن بعضها البعض. وتعليقاً على التطوّرات الأخيرة، دانت الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان، القصف الإيراني الذي نفّذته، وفق بغداد، «عشرون طائرة مسيَّرة تَحملُ مواد متفجِّرة»، وطاول «أربع مناطق في الإقليم»، وأسفر، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء العراقية الرسمية عن جهاز مكافحة الإرهاب في كردستان، عن «مقتل 13 شخصاً، بينهم امرأة حامل، وإصابة 58 بجروح، معظمهم من المدنيين وبينهم أطفال».
تتّهم إيران العناصر «المندسّة» بـ«تأجيج عدم الاستقرار وتوسيع الاضطرابات»


وتأتي هذه الضربات التي كانت محلّ إدانةٍ غربية، في سياق الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ وفاة مهسا أميني، فيما يربط بعض المسؤولين الإيرانيين الكبار بينها وبين «أعمال الشغب» التي تشهدها البلاد. وفي هذا الإطار، نقلت وكالة «تسنيم» الإيرانية، الثلاثاء، عن المسؤول في الحرس الثوري، عباس نلفروشان، قوله إن هناك عناصر «مندسّة» هدفها «تأجيج عدم الاستقرار وتوسيع الاضطرابات»، مشيراً إلى «(أنّنا) أوقفنا بعضاً من هذه العناصر المناهضة للثورة خلال أعمال شغب في الشمال الغربي، ولذا علينا أن ندافع عن أنفسنا، وأن نردّ ونقصف محيط الشريط الحدودي». وتسبّب القصف بأضرار وتدمير مبانٍ في منطقة زركويز على بعد نحو 15 كيلومتراً من مدينة السليمانية، حيث مقارّ عدّة أحزاب كردية إيرانية معارضة، لا سيما حزب «كومله - كادحو كردستان»، كما تعرّضت منطقة شيراوا جنوب أربيل، للقصف. من جهتها، سارعت القيادة المركزية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط إلى الإعلان عن إسقاط طائرة مسيّرة إيرانية «كانت متّجهة إلى أربيل حيث بدت وكأنها تشكّل تهديداً لقوات القيادة المركزية الأميركية في المنطقة». وفي الإطار نفسه، أعرب الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، في بيان، عن وقوف بلاده إلى جانب الشعب العراقي والحكومة العراقية «في وجه هذه الهجمات الشائنة على سيادتهم».
ومع تَواصل التظاهرات المحدودة التي تخلّل بعضها أعمال عنف، ندّد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بـ«الفوضى» التي أثارتها الموجة الاحتجاجية، معتبراً، في مقابلة تلفزيونية، أن «هؤلاء الذين شاركوا في أعمال الشغب يجب التعامل معهم بشكل حاسم، هذا مطلب الشعب... سلامة الناس خطّ أحمر للجمهورية الإسلامية في إيران، ولا أحد مخوَّل مخالفة القانون وإحداث فوضى». ولفت إلى أن «العدو يستهدف التكاتف الوطني عبر إثارة الخلافات في صفوف الشعب»، متّهماً الولايات المتّحدة بإذكاء الاضطرابات. وفي الإطار ذاته، وجّه وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، رسائل واضحة إلى الأميركيين، مؤكداً أن «إيران ليست مكاناً يتمكّن فيه أحد من الانقلاب أو القيام بثورة ملوّنة»، وقلّل من أهميّة الاحتجاجات التي تشهدها بلاده، بالقول، في مقابلة مع الإذاعة الأميركية العامة، إنه «لا خبر مهمّاً في إيران، ولن يحدث تغيير للنظام». وخاطب أمير عبد اللهيان الإدارة الأميركية التي عبّرت في مواقف متعدّدة عن دعم المحتجّين الإيرانيين واستنكارها الشديد لسلوك السلطات التي اتّهمتها بـ«القمع» والسعي إلى «إسكات الشارع»، قائلاً: «إذا كانت أميركا تفكّر حقاً بالشعب الإيراني، فيمكنها أن تنظر إلى هذا الواقع: آلاف الأطفال الإيرانيين فقدوا أرواحهم بسبب العقوبات المفروضة»، لافتاً نظر المسؤولين الأميركيين إلى «(أنّنا) في حالة التفاوض وتبادل الرسائل للعودة إلى الاتفاق النووي... لن يتغيّر النظام في إيران، فلا تتلاعبوا بمشاعر الشعب الإيراني».