غزة | تمرّ أمامه محطات حياته، كشريط لا تقصه ذاكرة. يغوص بين ركام منزله، لعلّه يعثر على ما يهزم فكرة موت عائلته، لكن مفعول الموت أقوى، ورائحة الدم تعبق بالمكان. يناديهم كي يخففوا وطأتهم نحو الموت، غير أن صوت حياتهم يخفت وخطوات نقيضها تصل إلى الساعة الصفر. تتجسّد عنده الحقيقة الثابتة، فما عاد أديم الأرض يحملهم. كُوّم التراب فوقهم، وبات هو وحيداً تأكله الحسرة. مصيره أن يبقى مسكونًا بالوجع يُعارك هذه الحياة. هكذا هو حال الشاب الغزاويّ ياسر الحاج، الذي يقلّب كفيه، تائهًا بين أسماء عائلته، فلا يعرف من يبكي أولاً.
بينما كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية من فجر الخميس الماضي، علا صوت الجنون الصهيوني على منزل عائلة الحاج. أطلقت طائرات الاحتلال ألسنة حقدها عليها من دون سابق إنذار، فيما كانت تسترق النوم لبضع هنيهات بعد يوم صاخبٍ وحافل بحكايات الموت. بلمح البصر، استحالت لحظات النوم هذه إلى رحلة نوم سرمدية. هذه الرحلة خطفت جميع أفراد العائلة، دقائق قليلة حالت دون التحاق ياسر بقاطرة رحلتهم نحو السماء. حينها، كان ياسر يهمّ بالدخول إلى منزله في خان يونس جنوب القطاع، لكن القصف كان أسرع إلى أفراد عائلته منه، فحوّلهم إلى جثث متفحمة وأشلاء متطايرة. محمود وباسمة وأسماء ونجلاء وطارق وسعد وعمر وفاطمة، عناوين بخّرتها الحياة ونقلتهم إلى ضفة أخرى أكثر رحابةً. هؤلاء محيط ياسر الصغير من والديه وأشقائه وشقيقاته، باتوا ممدّدين أمامه الآن يلقون السلام عليه، ثم يتوارون عن أنظاره.
لا يعرف ياسر
الحاج من يبكي
من أشقائه
الثمانية أولا

حاول ياسر أن يكذّب عينيه حين أحال القصف أمه باسمة (53 عاماً) مقطّعة السيقان، فيما كان يبحث بحالة هستيرية عن أطراف ورؤوس إخوته الأطفال. وبلغة ملؤها الحزن والحسرة، يقول ياسر لـ«الأخبار»: «ما عاد هناك نكهةٌ للحياة بعد موتهم. لا أعرف كيف سأتكيف مع هذا الواقع الصعب، فكل من كنت أشاركهم جميع مشاعري المختلطة ذهبوا، وبت وحيداً هنا». يتساءل: «ما هذه الأهداف التي حققها العدو الإسرائيلي؟ قتل المدنيين العزل وهم نيام سيجتث بذرة المقاومة؟ على العكس، المقاومة تشتد، ونحن نطالبها بالثأر. دم أهلي ليس رخيصاً». هكذا، سيقضي ياسر أيامه وطيف أهله يلاحقه!
ياسر ليس وحده من أسلمت عائلته الروح إلى بارئها. بين جنبات القطاع عشرات القصص الشبيهة، وإن كانت تحمل تفاصيل مختلفة. الطفل حسام غنّام (16 عاماً) يشارك ياسر الهمّ ذاته، غير أن غنّام بات حبيس العناية المكثّفة في المستشفى الأوروبي بخان يونس. يرقد بجسده الغضّ على سرير المرض، بعدما ألمّت إصابةٌ خطيرةٌ به.
بعدما صدح آذان فجر الجمعة الماضي، دوّى صوت انفجار ضخم هزّ مخيم يبنا في محافظة رفح جنوب القطاع. استفاق أهل المخيم على هذا الصوت ليجدوا أن منزل عائلة غنّام المكوّن من ثلاث طبقات بات أثراً بعد عين. الأمّ والأب والجدة وشقيقتا محمد الصغيرتان في عداد الموتى. انتُشلوا جميعهم من بين الأنقاض وسط سحابة هائلة من الدخان. يقول أحد شهود العيان لـ«الأخبار»: «أطلقت طائرات إف 16 ثلاثة صواريخ نحو المنزل دون أن يسبقها صاروخ تحذيري. المشهد كان مروّعاً، حيث سويّ البيت بالأرض، وغابت هويات وملامح أفراد العائلة. حضرت فقط الأشلاء المقطّعة».
برغم سوداوية هذه المشاهد، ثمّة من سعى جاهداً إلى تخطيها. فبينما كانت تتّجه أنظار العالم نحو البرازيل، ويتسمر الناس أمام شاشات التلفزيون ليقتحموا عالم الحدث الكروي الأهم، خاض الغزّاويون الدرب ذاته. حاول هؤلاء البحث عن فسحة وفيرة للجذل وسط قطاعٍ تلفّه الأخبار المفجعة. إبراهيم ومحمد قنن، وسليمان وأحمد وموسى الأسطل، وحمدي وإبراهيم وسليم صوالي، ومحمد العقاد، جمعهم الموت كما جمعهم شغفهم بالكرة. خرجوا مساء الأربعاء الماضي للاستعداد لمباراة الأرجنتين وهولندا في استراحة «وقت المرح» في بلدة القرارة على شاطئ بحر خان يونس، لكن استهدافهم بصاروخ حوّل هذه الاحتفالية الكرويّة إلى مأتم حقيقي، وأزاح كل أوقات المرح عنهم! ويقول محمد الصوالي شقيق الشهداء الثلاثة لـ«الأخبار»: «هرعت إلى الكافتيريا لأجد شقيقيّ إبراهيم وحمدي جثتين هامدتين، فيما بقيت أفتّش عن شقيقي سليم لأجد جثته في اليوم التالي».