غزة | تكفي قراءة متروية في كتاب (آتٍ لقتلك) للكاتب الإسرائيلي يعقوب بيري، الذي كان رئيس جهاز الشاباك، حتى تخبرك عن مدى اعتماد الاستخبارات الإسرائيلية على الجواسيس في حصولها على أدق المعلومات التي تتعلق بخصومها، ولا يمكن لأجهزة الرصد والتصنت كشفها. هي عادة إسرائيل المعروفة، لأنها لا تبني حربا إلا يسبقها إعداد لبنك الأهداف. هذه المرة ميدان غزة خالف توقعات عدوه، فالمقاومة حدّت من حضور العملاء على ضوء القبضة الأمنية الصارمة لكل من الأجهزة الأمنية الحكومية التابعة لحركة «حماس»، وكذلك الأذرع العسكرية للفصائل، التي تخصص كل منها وحدات معينة لمتابعة هذا الشأن.
في الحروب الماضية كانت الروايات تتعدد عن الجواسيس، منهم مثلا من بلع شريحة الاتصال حينما شك الناس فيه حتى لا يتمكن أحد من معرفة الأرقام التي يتصل بها، وآخر لم يعلم في تبليغه الاحتلال عن منزل مقاوم أن الأخير تركه واستأجر غيره ليذهب المستأجرون الجدد ضحية قصف المنزل وفقا لمعلومة قديمة. أما اليوم، فهم، العملاء، واقعون تحت التهديد، وخاصة بعد إعدام بعضهم رميا بالرصاص مباشرة، وهذا ربما ما نزع أقدام كثيرين منهم عن الشوارع خلال الحرب الجارية، وفق تأكيد مصادر أمنية في غزة رفضت كشف اسمها.
المصادر الأمنية نفسها كشفت لـ«الأخبار» احتجاز قوى الأمن الداخلي أربعة من المشتبه في وقوعهم في التخابر مع الاحتلال، اثنان منهم جرى إلقاء القبض عليهما بالقرب من مقر فضائية الأقصى التابعة لـ«حماس» مع حدود الساعة الثانية عشرة ظهرا، وأحدهما في الخمسين من العمر والآخر في أواخر عقده الثاني. وأشارت المصادر إلى أنه يجري الآن التحقيق مع هذين المعتقلين اللذين اقتيدا بعد تلقي أجهزة الأمن اتصالا من سكان المنطقة يفيد بوجود مشبوهين في المكان يحاولان رصد التحركات في المنطقة.
في الوقت نفسه، أكدت مصادر من قوى الأمن الداخلي أنها أحبطت عددا من المحاولات التي جهد فيها المتخابرون مع الاحتلال لإعطاء معلومات لجهاز الشاباك تتعلق بتحديد أماكن إطلاق الصواريخ من غزة باتجاه الأراضي المحتلة. ووفق شهود عيان في محافظة رفح (جنوب)، فإن مسلحين مجهولي الهوية، أعدموا مع ساعات فجر الأحد الماضي أحد الأشخاص الذي قيل إنه أقر بتزويد الاحتلال معلومات عن المقاومين. ووفق الشهادات الميدانية، فإن العميل «م. م.» جرى التحقيق معه لعدة أيام وأدلى باعترافات تفيد بتورطه في تتبع خطى المقاومين في المحافظة الجنوبية.
في غضون ذلك، كشفت مصادر في كتائب القسام، «حماس»، عن توجيه إنذارات إلى أشخاص مشتبه فيهم ضمن مناطق متعددة، وفيها ضرورة لزومهم منازلهم حتى تضع الحرب أوزارها. وحملت صيغة الإنذار الذي وصلتنا نسخة عنه وهو موقع في السابع من تموز الجاري: «حرصا منا على سلامتك عليك التزام منزلك طوال مدة التصعيد وعدم مغادرته لأن عدم التزامك يضعك تحت طائلة المسؤولية».


مطالبة بالتحفظ
على العملاء
وتأجيل قتلهم حتى حصولهم على محاكمات عادلة
تلك الإجراءات فسرها مراقبون أنها كانت سببا في حجب معلومات كثيرة عن الاحتلال، وخصوصا بعد فقدانه عددا كبيرا من عملائه على ضوء حملات «التوبة» التي فتحتها الحكومة السابقة في غزة أمام المتخابرين مع الاحتلال، على أن تضمن لهم الحفاظ على حياتهم. منذ ذلك الوقت، اعترفت الدوائر الأمنية في تل أبيب بإخفاقها في جمع معلومات دقيقة عن أماكن إطلاق الصواريخ في غزة ومخازن الأسلحة، ما دفع بهم إلى دراسة خيار الحرب البرية، وخاصة مع إخفاق سلاح الطيران في استهداف مطلقي الصواريخ.
بالتزامن مع هذا التقرير، أصدر الناطق باسم وزارة الداخلية في الحكومة السابقة في غزة، إياد البزم، بيانا صحافيا أكد فيه ملاحقة جهاز الأمن الداخلي المشبوهين والعملاء ورصد تحركاتهم. وقال البزم: «أحبطنا عددا من المحاولات الغادرة التي استهدفت المقاومة»، محذرا المشبوهين من أي «عمل جبان يستهدف الشعب الفلسطيني وجبهته الداخلية».
مع ذلك، بدت واضحة الدعوة الفلسطينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى منع عرض صور أو مقاطع فيديو عن إعدام العملاء، فضلا على ألا يجري إعدامهم إلا ضمن محاكمات عادلة، فيما يمكن التحفظ عليهم حتى انتهاء الحرب، لكن هذا الخيار صعب على الجهات المعنية، في ظل القصف المكثف للمقارّ والبيوت وأي أماكن يمكن سجن الجواسيس فيها.
منبع هذه الدعوة أنه في حرب عام 2012، نشر ناشطون صورا لستة عملاء وهم مسحولون في شوارع غزة، وقد أصاب جثثهم أذى كبير، ما قوبل بالاستهجان والمطالبة بضرورة تلافي هذه الحادثة ومنع تكرارها، وخاصة لما لذلك من تأثير على سمعة العائلات، كما جرت المطالبة بأن تكون الإعدامات بعد حصول العملاء على أحكام قضائية.
المحلل السياسي والأمني، هاني البسوس، تحدث بدوره عن «نضوب بنك الأهداف الإسرائيلي»، مستدلا بلجوء سلاح الجو إلى استهداف منازل المواطنين (حرب المنازل) والتلويح بالحرب البرية، «وفي هذا دليل على إفلاس قوات الاحتلال وإخفاقها الأمني، ومن الواضح أنها تعاني أزمة معلومات في القطاع». وقال لـ«الأخبار»: «الإخفاق الإسرائيلي في الوصول إلى الشخصيات القيادية في المقاومة، أو العثور على مخازن الأسلحة ومواقع الصواريخ، مع كل الإمكانات الاستخبارية والعسكرية التي يمتلكها الاحتلال، خير دليل على أن الأخير يواجه أزمة معلومات، أحد أسبابها غياب دور العملاء في الميدان».
بناء على ذلك يشيد البسوس بأداء الأجهزة الأمنية، التي عملت على القضاء على هذه الظاهرة «بإعدام عدد من العملاء، أو فتح باب التوبة أمام عدد كبير منهم بين حين وآخر». ورسيما كان جهاز القضاء التابع لحكومة حماس السابقة قد نفذ جملة من أحكام إعدام بحق عدد من العملاء خلال السنوات الخمس الأخيرة.